الأرشيف
الشيخ السبعيني الذي ألغى الطائفية وانتمى الى الشعب – حركة أحرار البحرين
ربما لا يشعر بحضوره الكثيرون،ولكن ما ان صعدت روحه الى بارئها حتى افتقده الاقربون والاباعد. لحيته الطويلة كانت تزينه، وتضفي على وجهه رونقا من البهاء المتميز. عاش كريما برغم تواضع حالته المادية، وهل أكرم ممن يتقدم الجموع ويواجه القتلة في الاعتصامات والاحتجاجات والندوات؟ عيسى الجودر بقي ثابتا بدون تراجع، صامدا بدون تردد، شامخا بلا انحناء حتى وافاه الاجل مغموما مهموما وهو يرى شعبه يسحق بدبابات المحتلين، ويفتقد رفاق دربه وهم يرزحون وراء القضبان.
ما كان يبحث عن موقع او وجاهة، ويكفيه ان له قلبا ينبض بحب المظلومين، وضميرا يخفق لظلامة الاحرار، ولسانا لم ينطق يوما بتمجيد الطغاة. بقي واقفا عندما انبطح الآخرون، وأصر على الحركة عندما توقف المتقاعسون، وصمم على المواجهة حينما انكفأ الذين عشقوا المال والجاه والمنصب عن الحراك الذي يغضب الديكتاتوريين. تكلم عندما صمت الجبناء، وتعفف عما بايدي الظالمين عندما هرول الآخرون ليلحسوا قصاع المستكبرين، ومشى حين رآى “ثوار الامس” واقفين.
عيسى الجودر رحل وترك وراءه تاريخا ناصعا بالوطنية والاباء والشموخ. كان الى جانب المجاهدين الصامدين الشامخين طوال عقدين كاملين منذ ان طرحت العرائض النخبوية والشعبية، كان واضحا في خياره: لن اصافح الطغاة الذين سلبوا حقوق المستضعفين، ولن أساير الذين اتخذوا دين الله دولا، وعباده حولا، ولن أتخلى عن المستضعفين المأسورين لدى العدو الجائر. حاولوا ثنيه عن موقفه الداعم لحركة الاصلاح والتغيير، ولكن باؤوا بالفشل. كان الرجل من طينة اخرى ومعدن آخر. بعثوا له عبيدهم ليبعده عن اخوته المجاهدينن وزينوا له الطائفية والعنصرية، ولكن الشيخ أبى ان يترك رفاق دربه. صحب الشيخ الجمري حقبة، فكان نعم الصديق والحليف، ثم رآى في حسن مشيمع رفيق درب النضال الطويل الذي لا يخذل من تولاه وتحالف معه. كان حاضرا في الميدان، يستنشق كالآخرين، الغاز المسيل للدموع، فلا يستطيع تحاشيها بالفرار، فقد كانت له نفس دونها الجسد الطيني الذي تتعبه حوادث الزمان، وترهقه الامراض. اكتفى بما وفرت له مهنة صيد الاسماك من رزق. أرأيت بحارا يتصدر حركة شعب يطالب الحرية ويحارب الطائفية والمذهبية والرجعية؟
عندما سقط الشهيد علي جاسم في 17 ديسمبر (عيد الشهداء) من العام 2007 كان الجودر يحضر مؤتمرا صحافيا في العاصمة البريطانية، بدعوة من اللورد ايفبوري، وكان ينوي حضور لقاء شبابي بعده. ولكن الرجل أبى التخلف يوما عن العودة الى البلاد لمشاركة الشعب حزنه وأساه وهو يودع شابا سقط ضحية النظام القمعي . وبرغم محاولة ثنيه من قبل منظمي اللقاء كان رده ببساطة: لا استطيع البقاء وشعبي يعاني من القمع”، فشد رحله عائدا الى البلاد في اليوم نفسه مع رفيق دربه، الاستاذ حسن مشيمع. وفي زمن روج فيه اعداء الشعب قيم الطائفية وسعوا جاهدين لتمزيق ابناء البحرين وفق الاطر المذهبية، كان الشيخ عيسى الجودر يتعالى على تلك المحاولات اليائسة الهادفة للنيل من وحدة الشعب والوطن، فكان في موقفه ذلك مرآة لمن سبقه من رموز المعارضة الذين سبقوه، مثل عبد الرحمن الباكر وعبد علي العليوات وعبد العزيز الشملان وابراهيم فخرو والسيد علي السيد ابراهيم. اولئك قوم تمتعوا بالوعي وراوا في سياسة الاستعباد الخليفية سلاحا موجها الى خاصرة الوطن، فترفعوا على محاولاتهم اذكاء الطائفية وقلبوا أخطر المحاولات التي حدثت في عاشوراء 1954 الى حركة وطنية قضت مضاجع الخليفيين وداعميهم البريطانيين لم تتوقف الا بالتدخل العسكري البريطاني المباشر في نوفمبر 1957. الجودر يستذكر ما حدث آنذاك ويرفض ان يكون الا واحدا ممن يخلدهم تاريخ النضال البحراني، كرمز وطني اسلامي واع يطالب بالحرية ويرفض الاستعباد. واذا كان اولئك قد رفضوا الاحتلال البريطاني فان الجودر فارق الدنيا وقلبه ينبض برفض الاحتلال السعودي الجاثم على صدور اهل البحرين.
قليلون هم الرجال الصابرون الصامدون المحتسبون الذين يعيشون متعففين عن المال الحرام او الوجاهة المزيفة او المنصب الممنوح من الطغاة، والأقل منهم من يصم آذنيه عن سماع دعوات الفرقة والطائفية، ويصر على دعم المشاريع الوطنية، يدا بيد مع الشرفاء بغض النظر عن انتمائهم المذهبي. وفي زمن الفتنة والاحتلال، ما كان غير صوت الجودر وثلة من رفاقه يهتف برفض الاحتلال والظلم والاستبداد. لم يكن سوى الرجل السبعيني، وبضعة من امثاله من شرفاء البلاد، مستعدين لتحدي الارهاب السلطوي والانضواء تحت راية العمل الوطني الباحث عن العدالة والحرية، رحل عيسى الجودر، كما رحل قبله ابراهيم فخرو وجاسم فخرو، وعبد الله فخرو، وهشام الشهابي، وعبد الرحمن النعيمي، بعد ان سطروا حياة حافلة بالنضال والصمود ومحاربة الاستبداد والاحتلال. قلة اولئك النفر، ولكن تاريخهم سيظل مرآة صادقة تعكس وفاء الاحرار لوطنهم، وعشقهم للحرية وتنكرهم للظلم، وشغفهم بوحدة الارض والوطن والشعب. لقد نعته جحافل المناضلين والمجاهدين، وبكته عيون النساء الثاكلات اللاتي فقدن ازواجهن على ايدي طغاة الزمان، وردد فتيان المدرسة نشيد الحرية من اجله، وبكته حركة حق وعيون المؤمنين الصابرين والمحتسبين. ذلك هو عيسى الجودر، فمن يأتيني بمثله؟
سعيد الشهابي