الأرشيف
مرآة البحرين \\ عيسى قاسم يبني "توازن الرعب": السحْق بالسحْق.. والحليم إذا غضب! – حركة أحرار البحرين
21/01/2012م – 3:17 م | عدد القراء: 259
مرآة البحرين (خاص): “خروج الشيخ عيسى قاسم عن هدوئه المعتاد”. تلك هي العبارة التي كررتها وكالات الأنباء العالمية، بصيغ مختلفة، في تغطيتها لخطبته أمس، والتي تم تداولها على نطاق واسع. وهو فعلاً، بدا خارجاً عن هدوئه. حتى عبر أحد تلامذته، وهو وزير العمل السابق مجيد العلوي عن ذلك بالقول: “أعرف الشيخ عيسى قاسم منذ ما يقارب 40 عاماً، ولم أره غاضباً كما ظهر في خطبة الجمعة اليوم”.
في الحقيقة، إن ذلك صحيح إلى حد بعيد. فرجل الدين الذي ينتقي عباراته بعناية فائقة، ولا يتحدث إلا مرة واحدة في الأسبوع، فيما يحرص على إلقاء خطبته قارئاً من ورقة، متخلياً بذلك عن بلاغة الارتجال التي يفضلها رجال الدين عادة، أمس فقط، بدا أن لديه كلاماً آخر من خارج النص المكتوب. وقد قال الشيء الكبير الذي استدعى رد وزارة الداخلية سريعاً، من خارجه، مرتجلاً ومستبقاً المصلين بالهتافات: “اسحقوا أي أحد يعتدي على عرض امرأة”. وراح يرددها مرتين: “نعم اسحقوه”. من يعرف خطيب جامع الإمام الصادق عن قرب، يعرف تماماً ماذا يعنيه “خروجه عن هدوئه المعتاد”. طيلة الأشهر الماضية، وحتى أسابيع، كان هو في الواقع من وقف بحزم ضد جميع فتاوى كبار رجال الدين، وبعضهم بدرجة آيات الله، التي كانت تأتي من الخارج، داعية المحتجين إلى الانتقال من طور السلمية إلى طور آخر. بل أن مقربين منه يتحدثون عن غضب انتابه حيال بعض الفتاوى التي دعت صراحة إلى “الجهاد” بعد حملة هدم المساجد في مارس/ آذار وأبريل/ نيسان الماضيين، بالبناء على نصوص دينية تتعلق بهذه الحالة.
ويومذاك غلب التشخيص السياسي، على التشخيص الديني – هو لايفرق بين الاثنين ويرى أن السياسة دين! -، حيث كان يعرف جيداً كلفة الذهاب في هذا الخيار أمام شهية السلطة التي بدت وقت فرض قانون السلامة الوطنية، مفتوحة إلى القتل، وبلا حدود. بل أن غرماء له من التيارات الأخرى، كثيراً ما همسوا، بتخاذله، وعدم انصياعه إلى “مظان” دينية تتعلق بهذا الشأن. وحين راح يهتف أمس “نعم اسحقوه” كان واضحاً أنه يعيد تدوير البوصلة، ويثبتها على اتجاه جديد، هو يعرف جيداً قبل أي أحد، كلفته.
في السياسة: الأرض مستوية
في الإطار التحليلي العام، يمكن رد أسباب ذلك إلى أن تمادي أجهزة الأمن في العنف، والصور والفيديوهات التي يتم تناقلها لقيام رجالها ب”ضرب النساء”، وتواتر روايات كثيرة عن شتمهن ونعتهن بأوصاف تحقيرية مثل “بنات المتعة”، قد أخرجتا الشيخ قاسم عن “هدوئه المعتاد”. لكن في السياق التحليلي الخاص، المتعلق بالتكوين الشخصي، فمما يعرف عن الشيخ أنه، في اللعبة السياسية يمكن أن يذهب معك إلى أبعد مدى، بل أن “أرض اللعب تُسوّى” – حسب عبارة توماس فريدمان – لتتحمل متنافسين، كما متخاصمين، كاملي الأهلية؛ لكن في اللعبة الدينية، وهي قد غدت الآن متعلقة بشعور طائفة إثنية تشكلت لديها قناعة عميقة أنها صارت تُستهدف على أساس مذهبي، فأنت ستقف أمام جدار صلد، إن لم يكن من الفولاذ. وهو الشيء الذي لم تفهمه السلطة كما لم تتعلمه، وحتى كثير من السياسيين، ليس منذ 14 فبراير/ شباط فقط، بل منذ العام 2005 مع مسيرة الأحوال الشخصية التي انتقدها حلفاء “الوفاق” من الجمعيات اليسارية. وهي من أكثر الهبات التي قادها الشيخ قاسم، والتي حرص على تقدمها شخصياً، وعدت حتى ما قبل الانتفاضة الأخيرة، من أكبر المسيرات في تاريخ البحرين، حيث قدر المشاركون فيها حوالي المائة ألف.
وهو لم يفعل الشيء نفسه مع المطالب السياسية المرفوعة آنذاك مثل “الدستور التعاقدي” و”البرلمان كامل الصلاحية”. حتى نعاه في ذلك كثير من أتباعه، وكانوا ما انفكوا يلقون أسئلة من نوع: لماذا لايهب قاسم الهبة نفسها لتحقيق المطالبات المرفوعة! الحقيقة أنه، كما سلفت الإشارة، أمام السياسة، هناك أرض كبيرة يناور عليها قاسم، وهي “أرض مستوية”، وتحتمل وجود فريقين، في الهجوم أو حرّاس مرمى، أما أمام الدين، وإهانات من قبيل التعرض إلى النساء، ضربهن أو نعتهن بأوصاف تمس صميم معتقداتهن، فإن الملعب، ليس فقط يصغر، بل أنك ترطم رأسك بجدار.
كلفة اللعب على أرض غير مستوية
استوعبت السلطة متأخراً جداً، وحتى الآن لايزال استيعاباً بطيئاً بل ساذجاً، وقد جاء مع الضغط الدولي، الأميركي والبريطاني خصوصاً، خطيئة هدم المساجد، وعليها أن تستوعب منذ الآن، الخطيئة الكبرى، في نقلها المغالبة على طرح سياسي، إلى حقل “المعتقد الديني”. ليس سهلاً على جماعة بشرية أن تتلقى العبث اليومي في مقدساتها، وتظل محتفظة برزانتها، فيما ترفع مطالبات سياسية بحتة. لنتذكر، إن أول من أشاع نعوتاً مذهبية مثل “بنات المتعة”، هو تلفزيون البحرين الرسمي. وقد راح يلفق روايات تافهة عن “ليالي المتعة في الدوار” و”خيمة للمتعة”. بل أن مستشار الملك الحالي نفسه، نبيل الحمر، راح يعرض صوراً على حسابه الشخصي في “تويتر” لملابس داخلية وواقيات ذكرية، مع هذه العبارة: “من ليالي الأنس في الدوار”! وأجبرت كثير من المعتقلات تحت التعذيب، بمن فيهن طبيبات وممرضات، على القول إنهن كن يقدمن “أجسادهن للمتعة”. فيما سجل تقرير اللجنة الملكية لتقصي الحقائق صوراً عديدة لذلك، حتى غدا مضمون العبارة التالية “السلطات السجنية تتعمد ازدراء عقائد المعتقلين، وإجبارهم على ترديد شتائم وعبارات منافية لها”، تتردد في ثنايا التقرير من أوله لآخره. ولم يرعو خصوم المعارضة عن اتباع السلوك نفسه، فأشياء مثل “التقية” و”المهدي المنتظر”، غدت ألعوبة “تحليلية” في الحوارات الساذجة التي تُجرى مع رئيس تجمع الوحدة الوطنية الشيخ عبداللطيف المحمود. ونعت “دوار المتعة”، غدا جملة فضلى يلهو بها الشيخ الإخواني عضو جمعية المنبر الإسلامي محمد خالد. و”أحفاد عبدالله بن سبأ” و”الروافض” نماذج من الردود التي يعقب بها الشيخ الإخواني الآخر، وعضو البرلمان ناصر الفضالة، على المتدخلين معه في حواراته.
تأتي خطبة قاسم، لتضع حداً قاسياً لأشهر من الاستهتار، والممارسات من هذه الشاكلة. إنه في الحقيقة نوع من توازن الرعب الجديد، أو إذن ديني ب”الإقبال على الموت”، بطمأنينة بالغة، “دفاعاً عن الأعراض”. الآن فقط، غلب التشخيص الديني على التشخيص السياسي -مرة أخرى،هو يدعم الاثنين في واحد، والسياسة عنده دين-، وعلى من أراد منذ فبراير/ شباط، تسوير الملعب بهذا الشكل، أن يهنأ باللعب على ملعب “غير مسوّى”!