Archive
Bahrain Freedom Movement
في العام 2002 وقبل شهور من الانتخابات التشريعية، طلب مني المرحوم إبراهيم حسين رئيس مجلس بلدي المحافظة الوسطى الراحل أن أدير مناظرة تضم عددا من الشخصيات الوطنية في وقت كانت فيه البحرين تعيش انقساما حقيقيا.
في الطريق إلى تلك المناظرة، كان يهيمن عليَّ إحساس شديد بالضيق في وقت كانت فيه البلد بأسرها تعيش إرباكا غير طبيعي، فما سيعرف فيما بعد بجمعيات التحالف الرباعي لم تكن قد حسمت قرارها بعد حيال المشاركة أو المقاطعة وكان الانقسام طوليا ويبدو وكأن أطرافه لا يجمعها حد أدنى. لم تكن أجواء طبيعية بالمرة وكان الجدل على أشده وكان الفرقاء يشحذون أسلحتهم مهيئين أنفسهم لمعركة ستشلنا لأربع سنوات قادمة. في تلك الأجواء، وجدت نفسي قبل تقديم المناظرة أخاطب الجمهور قائلا ”إننا نفتقد هذه الأيام واحدا من رجالات هذا البلد.. نفتقد حكمته وسعة صدره وافقه وسماحته.. انه على فراش المرض فلا تبخلوا عليه بالدعاء”.ما أن سمع الجمهور مفردتي ”سرير المرض” انطلق صوت من قاعة جمعية المهندسين حيث المناظرة قائلا ”أحسنت” وإذا بالآلاف الذين غصت بهم صالة الجمعية وساحتها المحيطة يرددون بصوت واحد ”اللهم صل على محمد وآل محمد”. لقد كان المغفور له الشيخ عبدالأمير الجمري قد غادر البلاد الى ألمانيا للعلاج قبل نحو أسبوع أو أكثر، ومنذ تلك الرحلة سيفتقد البحرينيون مع رحلة الجمري الطويلة مع المرض صوتا عقلانيا نادرا، ولسوف يكون هذا الفقد المبكر لصوت الجمري بداية لوضع سنجد فيه أنفسنا نردد من وقت لآخر أن بلادنا أصبحت لا تحتمل العقلانيين والوقت لم يعد وقتهم. وبعد أيام من تلك المناظرة، كتبت مقالا في صحيفة ”الشرق” القطرية تحت عنوان ”شيخنا الجليل عبدالأمير الجمري”، ولن أجد أنا وغيري من تفسير لذلك الاندفاع نحو الكتابة عن الرجل إلا فيما بعد. ففي كل منعطف وأزمة وتوتر خلال السنوات الماضية ولربما حتى اليوم، سيجد كثيرون أنفسهم يرددون: ترى كيف كان سيكون رد فعل الشيخ عبدالأمير لو كان بيننا سليما معافى؟. لقد كتب غسان الشهابي أمس في (الوقت) عن قيادة الجمري أنها ”بيعة لم يطلبها لنفسه وإنما ألقيت في عنقه”. ولعل هذه أولى المدلولات التي ستقودنا إلى فهم ما كان يمثله الرجل ولماذا يبدو غيابه المبكر بمثل هذه الفداحة.مازلت أرى مثلما كنت سابقا أن الجمري ليس زعيما سياسيا بالمفهوم الشائع للقيادة السياسية، فما بين ان يكون رجل دين في المقام الأول وزعيما سياسيا فيما بعد، يكمن خيط إنساني بين الوجهين سيعمل في النهاية على تشكيل عجينة الجمري كزعيم سياسي. هذا ”الإنساني” هو ما جذب الناس إلى الجمري متخطيا حدود زعامة تقليدية في محيطه الطبيعي إلى المحيط الوطني الاشمل. كيف حظي الشيخ عبدالأمير بمثل هذا التقدير؟. إن كان الجواب لدى البعض سيعيدنا إلى مواقفه السياسية وخصوصا في تلك الأيام التي كان يذهب فيها إلى المحرق إبان تحركات لجنة العريضة الشعبية وما بعد، فهو قد يكون محقا لكن ذلك لن يكون الجواب النهائي. فمن يقوم بهذا الجهد ويظل يحظى بالتقدير على رغم تقلبات السياسة، يقوده الحس الإنساني والخصال الشخصية قبل أي شيء آخر. ولسوف يأتي البرهان لاحقا للكثيرين ممن لا يرون في السياسة ما هو ابعد من إعلان المواقف وبناء التحالفات. إحدى أهم سمات الزعامة هو القدرة على القيام بما هو غير متوقع، خصوصا الايجابي. هنا سيقدم الشيخ عبدالأمير برهانا جديدا يؤكد أن الحس الإنساني لديه يحرك السياسي وليس العكس: زيارة غير متوقعة لجمعية الإصلاح بالمحرق يجلس فيها على المنصة مع رئيس الجمعية الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة وعبدالرحمن النعيمي العائد من المنفى منذ شهور. ومن هناك سيلقي بالرسالة الأهم: ”الشيعة لم يفكروا في يوم في استلام الحكم”. الآن فقط ستتبين القيمة التي مثلتها خطوة غير متوقعة كهذه وما أشاعته من أجواء ايجابية عندما نقارن مع ما نحن فيه اليوم: ”شكوانا المريرة من تصاعد الحس والنوازع الطائفية لتكون مقياسنا الوحيد للفهم والتعامل والتعاطي مع كل شؤوننا”. أي شكوانا من هذا التصاعد المخيف للطائفية. وإذ نجد أنفسنا لا مناص أمام هذه المقارنة، سنعيد ترديد قناعتنا التي ترسخ نفسها يوما بعد آخر: بلادنا لا تريد العقلانيين وليس هذا زمنهم. اغترب الجمري مبكرا منذ أن ابتلي بالمرض واستجاب لنداء ربه قبل يومين، لكن غربتنا مستمرة وما أشدها إذ بتنا لا نسمع إلا أصوات التعصب والجنون تتطاير من كل صوب.
ليرحم الله الشيخ عبدالأمير بن منصور الجمري .