Archive
Bahrain Freedom Movement
قبل ما يقارب خمسة قرون كتب مفكرٌ فرنسي شاب اسمه إيتيان ديلا بويتي (1530-1563) مخطوطة بعنوان «خطاب حول العبودية الطوعية[1]». كُتبت تلك الوثيقة للتنديد بنظام المَلَكية المطلقة وللتحريض على عصيان النظام الاستبدادي. ولقد حظت تلم المخطوطة باهتمام يتعدى زمانها ومكانها. بل إن قيمتها الفكرية والتحريضية تستمر إلى اليوم رغم عمرها الذي يقارب خمسمئة سنة.
يقدم ديلا بويتي (دي لا بويسي، حسب بعض الترجمات العربية) تحليلاً نافذاً للأساليب التي يتبعها الطغاة للبقاء في قمة السلطة. وهو تحليل يتفوق فيه ديلا بويتي على كثيرين من المنظرين في هذه الأيام إذ هو ينطلق من فرضيتيْن متلازمتيْن من فرضيات علم الاجتماع السياسي الحديث. الأولى تقول إن مصدر السلطة هم الناس. إلا أن هؤلاء يتخلون عن السلطة، لهذه الأسباب أو تلك، لصالح شخص يتحول عاجلاً أو آجلاً إلى طاغية. والفرضية الثانية تقول إن بإمكان الناس إزالة الطغيان من دون اللجوء إلى العنف عن طريق رفض الرضوخ لسلطة الطاغية. لا يخفي ديلا بويتي كراهيته للطغاة، لكنه يوجه اللوم للناس الذين مكّنوا الطاغية من أن يصبح طاغية، أي بقبولهم ما ينفذه من سياسات وما يتبعه من أساليب لإدامة سلطته وتشديد قبضته عليها. فالعبودية الطوعية تقوم من جراء رضوخ الناس لسلطة الطاغية وقبولهم تنفيذ أوامره وقوانينه. فكما أن الناس هم مصدر السلطة فإنهم أيضاً مصدر العبودية. تبدو هذه المقولة هذه الأيام بسيطة إلى حد البداهة. إلا أنها كانت اكتشافاً عظيماً في زمنٍ كان أغلب الفلاسفة ورجال الدين فيه يعتبرون الظلم قدراً لا مفر منه. ويرى أغلبهم الاستبداد أمراً من الله الذي سلط الطاغية على الناس إما عقاباً لهم على خطايا وذنوب ارتكبوها أو ليكون امتحاناً لإيمانهم ولقدرتهم على الصبر. شَّخّصَ ديلا بويتي مصدر السلطة السياسية وجذور الدكتاتورية علاوة على قيامه وحدد عدداً من الأساليب التي يستطيع الناس بها الحؤول دون استعبادهم أو تحرير أنفسهم من الاستعباد[2].ما قاله ديلا بويتي وما استمر المفكرون المصلحون والثوريون ينادون به منذ بدء عصر التنوير وحتى اليوم هو أن الطغيان فعلٌ إنساني كما أن الاستعباد فعل إنساني. فالأمرُ أولاً وأخيراً بيد الناس. فإن شاؤوا كانوا عبيداً وأن شاؤوا أحراراً. إرادة الناس هي مصدر الحرية وهي مصدر العبودية. وفي هذه المقولة التي مهد استيعابها تطوير حقل دراسة الحركات الاجتماعية وأشكال المقاومة المدنية في العقود الأخيرة نرى أيضاً صدى آية قرآنية يرددها المؤمنون إلا أن قليلاً مَن يتدبر فيها. لم أطلع للأسف على ترجمة عربية لمخطوطة «خطاب حول العبودية الطوعية» بكاملها. فما اطلعت عليه بالعربية لا يزيد على فقرات متناثرة وهي عبارة عن ترجمات تعوزها الدقة في أحسن الأحوال. ولهذا أتمنى أن يتصدى من يملك التأهيل والقدرة لترجمة هذه الوثيقة المهمة وتوفيرها للمكتبة العربية. غير أنني سأعيد فيما يأتي ترجمة فقرة واحدة من تلك المخطوطة اقتطفها جيمس سكوت في أحد كتبه التي تتوافر في الأسواق العربية في ترجمة غير دقيقة للأسف[3]. فهذه الفقرة تبدو صالحة للتدبر فيها الآن رغم مرور أكثر من خمسة قرون على كتابتها. وفيها يتعرض ديلا بويتي إلى دور أفراد النخب الذين يحيطون بصاحب السلطان فيزينون له أفعاله ويسهمون في إدامة طغيانه. يقول ديلا بويتي «يرى الطاغية الأفراد القريبين منه وحوله يمالئونه ويستجدون الأفضال منه، وهم لا يطيعون أوامره وحسب، بل عليهم أن يفكروا كما يريدهم هو أن يفكروا، وعليهم غالباً، في سبيل إرضائه أن يتنبؤوا بأفكاره. فلا يكفي أن يطيعونه بل عليهم إرضاؤه وعليهم أن يجهدوا أنفسهم وأن يتعذبوا، بل إن يستميتوا في خدمته. عليهم أن يستبدلوا ذوقهم الخاص بذوقه، وأن يتخلوا عن رغباتهم ونوازعهم الطبيعية. وعليهم الاهتمام الشديد بمتابعة كلماته وصوته وعينيه وحتى إيماءاته. فليس لهم أعين أو قدم أو أيدٍ ليست منتصبة انتباهاً لرصد رغباته ولاكتشاف أفكاره».لابد لي هنا من استعادة صورة عبيد الحقل/ عبيد المنزل التي ترسخت في الفكر الإنساني عن طريق مخزون ما عاناه السود في عصر الرقيق في أميركا. وهو مخزونُ معاناة مازال فاعلاً في المجتمع الأميركي على أكثر من صعيد رغم الإنجازات التي حققها نضال وتضحيات قوى التحرر والمساواة في تلك البلاد. فصورة عبيد الحقل/ عبيد المنزل تمثل حالة إنسانية راهنة وليست ظاهرة أميركية فريدة بمكانها وزمانها. وهي صورة نرى تطبيقاتها الحديثة، أي بعد اندثار عصر الرقيق، في الاستراتيجيات التي يستخدمها أهل السلطان لضمان استمرار سلطتهم. ومن بين أنجع هذه الاستراتيجيات هي إدامة تشطير المجتمع عبر التمييز بين المقموعين وتفضيل فئة منهم على فئة أخرى. ففي عصر الرقيق الأميركي كان التفريق دقيقاً وصارماً فئتيْن من العبيد. كان عبد المنزل وعبد الحقل، كلاهما، مملوكان إلا أنهما يعيشان في عالميْن مختلفيْن. فعبيد الحقل هم المكلفون بالأعمال الشاقة. أما عبيد المنزل فهم نخبة ينتقيها المالك لخدمته شخصياً ولمساعدته في مختلف شؤونه بما في ذلك الإشراف على عبيد الحقل. ومعلومٌ أن المالك يتحكم في العبديْن على حدٍ سواء.إلا أن عبد المنزل لا يهتم بعبوديته، وقد لا يتأفف منها، بل هو يرى نفسه محظوطاً. فقد يكون عبد المنزل ممن يحسنون الطبخ أو الغناء أو الرقص أو القتال أو قد يكون حسن المظهر والهندام أو غيرها من الصفات التي تجعله يبدو في عين مالكه مميزاً. يخدم عبيد المنزل مالكهم ويساعدونه في استثمار ممتلكاته بما في ذلك التعامل نيابة عنه مع عبيد الحقل. فهم قد يتولون الترفيه عن العبيد الآخرين في المناسبات أو قد يتولون جلدهم بالسياط في مناسبات أخرى. فما عبدُ المنزل إلا امتداد لإرادة مالكه فإن رضي المالك رضي عبد المنزل وإن غضبَ غضب.
أقول إن العبديْن مملوكان. إلا أن عبد الحقل هو الأكثر استعداداً لتحرير نفسه. فهو لن يخسر شيئاً سوى أغلاله إن هو عصى وتمرد. أما عبد المنزل فهو أول من يدافع عن الوضع السائد. وسيفعل كل ما يستطيع كي يبقى المالكُ مالكاً ولكي يبقى هو متنعماً في ظل سيده ومتميزاً عن عبيد الحقل. عبودية عبد المنزل هي عبودية طوعية يتمنى هو دوامها، بل ويعادي كل من يتحدى الأسس التي تقوم عليها.
Etienne de La Boétie، [1] The Politics of Obedience: The Discourse of Voluntary Servitude، with an introduction by Murray Rothbard، Montrèal/New York/London: Black Rose Books، 1997 [2] انظر: عبدالهادي خلف، «المقاومة المدنية مدارس العمل الجماهيري وأشكاله»، مؤسسة الأبحاث العربية، .1986
[3] انظر: «المقاومة بالحيلة – كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم»، دار الساقي – بيروت .1995
– كاتب بحريني -أستاذ علم الاجتماع في جامعة (لوند) – السويد