الأرشيف

البحرين: تعثر بروفة «الشراكة الديمقراطية» الامريكية د.سعيد الشهابي اذا كان العام الذي يفصل بين اقرار ميثاق العمل الوطني والغاء دستور 73 يعتبر «عام التخدير» في قاموس المعارضة، فان الاثني عشر شهرا الاخيرة (اي منذ صدور قرار الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البحرين في 14 فبراير 2002 بالغاء ذلك الدستور) شهدت قدرا من الصحوة المحدودة على الواقع وعودة «الحرب الباردة» بين نظام الحكم وفصائل المعارضة الاساسية في البلاد. هذه المعارضة تمثل تيارات اسلامية وليبرالية ويسارية استطاعت الاتفاق على مباديء عامة، وكشفت بعض المعالم الخفية للمشروع الذي يسعى الشيخ حمد لتنفيذه، ونجحت في اضعاف البريق الديمقراطي الذي أبرزه الاعلام المحلي بمقاطعتها انتخابات «مجلس النواب» التي تمت في شهر اكتوبر الماضي. هذه «الحرب الباردة» بين الطرفين تصاعدت في اثر قرار الغاء دستور ،1973 ولم تساهم الاجراءات الحكومية اللاحقة في تقليص مساحة الاختلاف الذي ازداد حدة مع استمرار اصدار المراسيم غير الدستورية التي يتناقض بعضها مع المعاهدات الدولية. فصدور دستور الملك استقبل برفض شبه كامل ودعوة من الاطياف السياسية المتعددة لاسقاطه واعادة العمل بالدستور التعاقدي، تبع ذلك تكريس الطائفية السياسية بعنوان الاقتراع والانتخاب، ثم صدور المراسيم الملكية التي لم قوبلت باستياء شعبي مثل قانون الصحافة الذي يصادر حرية الكلمة ويجرّم امتلاك او توزيع اية مطبوعة لا تقرها وزارة الاعلام، وقانون حماية المعذبين الذي يمنع رفع القضايا ضد مرتكبي جرائم التعذيب، ثم مشروع قانون السلامة الوطني الذي تعتبره المعارضة نسخة معدلة عن قانون امن الدولة السيء الصيت. وتوالت الاجراءات الحكومية بمحاولات منع انعقاد مؤتمرات الجمعيات السياسية بعنوان «السماح بالانشغال ومنع الاشتغال بالسياسة». وتكرست حالة القطيعة باعادة تعيين الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة رئيسا للوزراء، وهو الذي ترأس كل الوزارات منذ الاستقلال في ،1971 ومعه فريق من الوزراء الذين قضوا في مناصبهم الوزارية اكثر من ثلاثين عاما. ويبدو الصراع بين العائلة الحاكمة والمعارضة بأشكال مختلفة يتصل بعضها بالجوانب الدستورية والحقوقية، بينما يتصل البعض الآخر بالاختلاف حول المصطلحات المستعملة لتوصيف الوضع السياسي في البلاد. وتتأثر هذه الحالة في بعض الاحيان بالاوضاع السياسية الاقليمية والدولية، بينما ترتبط احيانا اخرى بحالة الشد والجذب سواء بين اطراف الحكم نفسها ام بين الحكم والمعارضة. وفي كل الاحوال تعكس حالة «الحرب الباردة» اجواء من الشك وغياب الثقة، تتغلف احيانا بأدب المجاملات، وما تلبث ان تطفو عند الاختلاف، تماما كما حدث في حوادث الشغب عشية رأس السنة الميلادية من اتهامات متبادلة بين الطرفين بخصوص المسؤولية عما جرى. خلال الاثني عشر شهرا الماضية حدثت تطورات عديدة على الصعيدين المحلي والاقليمي، ادت الى تضاؤل الثقة بين الحكم والمواطنين، والى حالة من انكماش دوائر التعاطي بين أهم جهتين معنيتين بما كان يسمى «المشروع الاصلاحي» وهما الملك والجمعيات السياسية. ويمكن القول ان تلك التطورات اعادت شيئا من الاجواء التي شابت العلاقات بين الطرفين على مدى ربع القرن الذي كان الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، رئيسا للوزراء فيها. تلك الاجواء تزداد تلبدا بالسحب كلما اتضحت ملامح «الديمقراطية» التي يطرحها الشيخ حمد. فالممارسة الديمقراطية المتبعة حاليا في البحرين تقتصر على وجود اجراءات انتخابية لم تكن موجودة من قبل. وتنتهي الديمقراطية بانتهاء الانتخابات، فتصبح المجالس المنتخبة مؤسسات جامدة لا تتوفر على شيء من المقومات الديمقراطية الاخرى مثل الرقابة على المال العام ومحاسبة المسؤولين او ممارسة التشريع او تبادل السلطة. هذه السمات الاساسية للممارسة الديمقراطية لا وجود لها في النمط البحريني منها. ويتم تسويق هذه الصيغة من الديمقراطية بانها «تضاهي اعرق الممالك الدستورية في العالم«. كما تستعمل لتسخيف المطالبة بدستور 73 الذي تراضى الشعب والحكم بشأنه وبكونه مرجعية قانونية متفقا عليها بين الطرفين، وترويج مقولة ان دستور الملك الذي طرحه على الشعب قبل عام يعتبر قمة التقنين الدستوري المعاصر. ولدى طرح التساؤلات حول ما اذا كانت هذه الممارسة منسجمة مع ما لدى الديمقراطيات العريقة، تأتي الاجابة بان تلك الديمقراطيات عريقة جدا استغرق قيامها مئات السنين وليس من المنطق في شيء المطالبة بالاحتذاء بها، اي ان على التجربة البحرينية ان تبدأ من حيث بدأت تلك التجارب الديمقراطية وليس من حيث ما انتهت اليه، وهو منطق خطير لانه يعني التخلي عن المبدأ القائل بضرورة الاستفادة من تراكم التجربة الانسانية، والبدء من حيث انتهى الآخرون. ادت هذه المقولات التي تزامنت مع الصحوة على الواقع بعد ما يسمى «عام التخدير» الى تحالف وطني جديد تمثل بجمعيات اربع تمثل اغلبية شعب البحرين، تطالب باعادة العمل بدستور 1973 وتطرح مواقفها السياسية بوضوح من خلال الندوات والبيانات المشتركة. وبرغم محاولة الحكومة تشتيت الصف الوطني بالسماح بتأسيس عشرات الجمعيات المتماثلة فقد انتشرت حالة استقطاب واضحة تمثلت المعارضة فيها بالجمعيات الاربع في مقابل استمرار نمط الحكم الجديد بوجوهه القديمة. هذ الاستقطاب لم تكن الحكومة ترغب في وجوده، ولذلك أصبح وجوده مصدر ازعاج للمخططات الحكومية التي تهدف لتغيير الوضع جوهريا تحسبا لما سيحدث في المنطقة
من تطورات سياسية وعسكرية. التغيير السياسي في البحرين مرتبط، بشكل وثيق بما يجري في المنطقة والعالم من تسارع الرغبة في اصلاح الاوضاع السياسية وتكريس الممارسة الديمقراطية. ويبدو ان الشيخ حمد استفاد من استشارات قدمتها مؤسسات اجنبية بالقيام باصلاحات تبدو عميقة لكي لا تفاجئه التطورات فيأتي التغيير بما لا يحب. وقد قضى الشيخ حمد عامين كاملين بعد صعوده الى الحكم في اثر وفاة والده في مارس ،1999 يتدبر الامر ويحسب خطاه السياسية بدقة، فيطرح ما يبدو من اصلاح سياسي بدون ان يتنازل عن شيء من سلطاته او مصالح العائلة الحاكمة. وكان التغيير السياسي في العراق امرا واردا منذ بضع سنوات، وهو تغيير لن يقتصر على حدود الرافدين، بل سيتعداه الى بلدان المنطقة التي بقيت عقودا بمنأى عن التغيير والتقدم السياسي والديمقراطي. وسيكون التغيير في العراق هذه المرة أكثر عمقا وشمولا، والبحرين من اكبر الدول المرشحة لتغيير مماثل نظرا للمحنة التي عاشها شعبها طوال الحقبة الماضية. وبالتالي طرح الشيخ حمد برنامجه السياسي ليبدأ باطلاق سراح السجناء السياسيين وينتهي بتكريس نمط حكم اكثر مركزية وشمولية، وأقل تأثيرا على مصالح العائلة الحاكمة. وتحقق له اغلب ما يريد خلال العام الاول بعد طرح مشروع الميثاق الوطني. ويجب التأكيد على ان المواطنين لم يقرّوا ذلك الميثاق الا بعد ان قدم الشيخ حمد نفسه الضمانات التي طلبتها المعارضة وفي مقدمتها ان يكون لدستور 73 الحاكمية على الميثاق، وان يتم اي تغيير دستوري وفق الآلية التي تنص عليها المادة 104 من الدستور وان تقتصر صلاحية التشريع على القسم المنتخب من مجلس الشورى. ولكن المواطني فوجئوا في 14 فبراير الماضي بتخلي الحكم عن تلك الشروط جملة وتفصيلا، الامر الذي ادى الى حالة عامة من الاحباط والتشكيك في شرعية ما قام به الحكم بناء على ذلك الميثاق. وترى قطاعات من المعارضة ان الميثاق اصبح لاغيا بعد تخلي الحكم عن التزاماته الموثقة التي قدمها للشعب، وتصر هذه القطاعات على ضرورة وفاء الحكم بالتزاماته لكي لا تنتهي الثقة بين الطرفين تماما. بعض قطاعات المعارضة كان متخوفا من الوقوف بوجه المشروع الحكومي بحجة ان التغيرات الاقليمية قد تؤدي الى تقليص مساحات الحرية في المنطقة وتقوية نمط الحكم الشمولي لحكومة البحرين التي فتحت قواعدها للقوات الامريكية لضرب العراق. بينما تؤكد الوقائع ان اي تغيير سياسي في العراق لن يقتصر على حدود ذلك البلد وان قدرا من الديمقراطية سوف يسود المنطقة، وان انظمة الحكم القبلية لن تستطيع البقاء طويلا خارج دائرة التغيير والاصلاح السياسي. وقد انتشرت مؤخرا انباء مهمة تفيد بان السعودية على وشك احداث تطوير سياسي مهم بعد انتهاء الحرب المزمعة ضد العراق تتمثل بادخال شيء من الديمقراطية والمطالبة برحيل القوات الامريكية من اراضيها. ويعرف الشيخ حمد، قبل غيره، الابعاد السياسية والمذهبية لاي تغيير سياسي في العراق، ولذلك استبق الحدث بمشروعه الذي توقف في بداية الطريق. وما تزال ظروف قرار نقل القمة العربية من البحرين الى مصر غير معروفة، برغم ان ذلك قرار أفقد الحكومة فرصة مهمة لاعطاء اهمية خاصة لمشروعها السياسي وتوفير زخم اعلامي ونفسي له. وجاء ذلك القرار في اثر زيارة الشيخ حمد الى واشنطن والتقائه الرئيس الامريكي هناك. ويشعرالشيخ حمد الآن ان البحرين لن تكون بمنأى عن رياح التغيير العاتية، وان توقف مشروعه السياسي افقده الزخم المطلوب لتطوير الاداء السياسي. كما تواجهه مشاكل داخلية غير قليلة من بينها استمرار ازمة البطالة وما تمثله من عبء سياسي وامني مرشح للتصاعد خصوصا مع استمرار مسيرات العاطلين واعتصاماتهم، والتشكيك المتواصل في نوايا الحكم بسبب قرار تغيير التركيبة السكانية وفق مشروع «التجنيس السياسي» في الوقت الذي ما يزال مواطنون كثيرون محرومين من الجنسية، وتصاعد الاصوات المطالبة بمحاكمة المعذبين والغاء القانون 56 الذي يوفر لهم حماية من سلطة القانون، والتحقيق في الفساد المالي والاداري في اعلى السلطة التنفيذية، وتراجع الاداء الحكومي في اصلاح البنية التحتية للبلاد، وتراجع الاقتصاد بشكل ملحوظ. هذه التحديات لا يستطيع الشيخ حمد تجاهلها، كما لا تستطيع المعارضة غض الطرف عنها، وبالتالي فهناك ترقب لما ستؤول اليه الامور بعد انتكاسة المشروع الذي طرحه الشيخ حمد قبل عامين.

والمعارضة، هي الاخرى، لم تحسم موقفها بعد ازاء مشروع الشيخ حمد السياسي، فهل هو مشروع «اصلاحي» كما يزعم الاعلام المحلي، ام «تخريبي» كما تزعم بعض قطاعاتها؟ من وجهة نظر الحكم فان الغاء دستور 73 وتغيير التركيبة السكانية واجراء انتخابات لمجالس صورية مثل المجالس البلدية ومجلس النواب والاجراءات الجديدة مثل قانون حماية المعذبين وقانون الصحافة، كل ذلك يمثل للحكم «اصلاحا» حيث انه يقلص مساحة المعارضة المستقبلية للحكم وبالتالي يؤدي الى استقراره. بينما تعتبر بعض قطاعات المعارضة تلك القضايا «تخريبا» للواقع وتطالب بالتخلي عنه فورا لان استمراره يؤدي حتما الى توتر الاوضاع وتهييج المشاعر واثارة النقمة ضد النظام. هذا التباين يمثل ازمة مصطلحات ما تزال تفرض نفسها بقوة في اوساط المعارضة. ومن تلك التحديات ايضا: التعامل مع الاعضاء المنتخبين لنصف مجلس الشورى او تجاهلهم، تكرار الاشارة الى «المشروع الاصلاحي» او «التخريبي» في الخطاب العام، الاعتراف بحكومة الشيخ خليفة بن سلمان الجديدة – القديمة او ازدراؤها وتحمل النتائج التي ستنجم عن ذلك، الصمت على مشروع التغيير السكاني او كشفه واعتباره احد مصاديق «الابادة الثقافية» حسب ما يقوله البعض، تصعيد المعارضة للسياسة المحلية ام الاكتفاء بالخطاب الخجول. هذه تحديات تواجه المعارضة والحكومة على حد السواء. والسؤال المهم هنا: كيف نجح الحكم في تحويل دائرة الخطاب بمصطلحاتها من الدائرة السوداء التي تتكرر فيها مصطلحات مثل «تعذيب» و «اعتقال تعسفي» و «ابعاد قسري» و «قانون امن الدولة» و «مجلس الشورى» الى دائرة تبدو اكثر تحضرا تتكرر فيها مصطلحات مثل «انتخابات» و «المجلس البلدي» و «مجلس النواب» و «المشكلة الدستورية» و «حرية الكلمة» وغيرها من المصطلحات التي تعكس انطباعات ايجابية لدى من يسمعها. فاذا نجح الحكم في فرض الدائرة الثانية في الخطاب السياسي استطاع سحب البساط من تحت اقدام المعارضة، اما اذا نجحت الاخيرة في الحديث المفتوح بدون مجاملة او مواربة، فان حقيقة الواقع ستكون اكثر وضوحا لدى الآخرين. هذه ملامح لازمات آنية ومستقبلية ستكون صعبة. اما الوضع القائم فيتجسد في وضع محكوم بقوانين مفروضة من الاعلى واعلام مؤمم تديره السلطة التنفيذية وطرح سياسي يعتمد التشويش وعلاقات خارجية تحركها مصالح العائلة الحاكمة قبل مصلحة الامة، وميثاق تخلى احد طرفيه عن التزاماته في ضوئه. أهي خطوة الى الامام وخطوتان الى الوراء؟ ام هو منطق القوة الذي يتيح للقوي فرض ما يريد بدون ان يخشى من بطش الضعيف الذي لا سلطان لديه؟ اهي قمة التغيير الذي طالما تغنى عشاق الحرية بالوصول اليها؟ ام بداية طريق وعر لديمقراطية موعودة واستبداد واقع؟ اذا كان ما حدث في البحرين «بروفة» للتغيير الذي ينتظر المنطقة في اطار المنظومة الامريكية الجديدة فسوف يكون ذلك تكريسا للوضع الراهن، وستكون وعود كولن باول بـ «شراكة ديمقراطية» بين امريكا والعالم لا تختلف كثيرا عن الوعود التي سبقت التصويت على الميثاق البحريني قبل عامين. فهل يمكن احتواء حالة الاحباط التي احاطت باهل البحرين منذ ذلك الحين؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق