Archive
Bahrain Freedom Movement
الدكتور سعيد الشهابي – 13/08/2008 – 20:43 | مرات القراءة: 717 |
هل يمكن تطوير قضايا حقوق الانسان بدون ان يؤدي ذلك الى اصلاح سياسي؟ بمعنى هل يستطيع الحاكم الطاغية ان يسكت عما يقوله المعارضون او يمارسونه من اعمال معارضة لحكمه؟ هل يستطيع ان يحترم حقوق الانسان وفق نصوص الشرائع الدولية والسماوية بدون ان يؤثر ذلك على حكمه؟ لتوضيح صعوبة ذلك (تطوير حقوق الانسان مع الاحتفاظ بالنظام السياسي وعدم اصلاحه او تطويره) تجدر الاشارة الى بعض الوقائع. عندما انطلقت الاسبوع الماضي في بكين دورة الألعاب الاولمبية سعى الغربيون لاحراج الصين بملف حقوق الانسان المتعلق بقضية التبت والنشطاء الصينيين الذين يطالبون باصلاح سياسي في بلدهم وقضية فالونج جونج (مذهب روحي انطلق في الصين في 1992، ومنعته الحكومة برئاسة جيانج زامين، واعتقل بعض افراده وأعدم عدد منهم). وكانت هناك دعوات كثيرة لمقاطعة الدورة لحرمان الصين مما ينطوي عليه ذلك من اعتراف دولي وتطبيع سياسي مع نظام يختلف في الايولوجيا والنظام السياسي عن النظم الغربية. وفي خطابه عشية افتتاح الدورة، وقبيل وصوله العاصمة بكين، انتقد الرئيس الامريكي، جورج بوش،اوضاع حقوق الانسان في ذلك البلد بشكل لاذع. والسؤال هنا: هل ان طرح قضية حقوق الانسان مع الصين غير مرتبطة بمسألة التمايز السياسي الغربي مع بكين؟ وهل حقا ان الغربيين يطرحون هذه المسألة في حواراتهم مع الدول الاخرى بدون ان يكون ذلك مرتبطا بموقف سياسي ازاء تلك الدول؟ هل ثمة موقف مبدئي دولي يدافع عن حقوق الانسان بما هي قيمة مقدسة ومطلقة بعيدا عن الايديولوجيا السياسية للانظمة؟ المعروف ان قمة الامم المتحدة في 1993 التي خصصت لحقوق الانسان قررت اعتبار حقوق الانسان قضية عالمية تتجاوز الحدود، وانها ليست قضية سيادية بمعنى ان الدولة تفقد السيادة على شعبها اذا انتهكت تلك الحقوق. ولكن من الناحية العملية لم يحصل تدخل دولي بشكل منظم لحماية تلك الحقوق في البلدان التي تتعرض لأبشع الانتهاكات. واستمرت الانتهاكات بشكل واسع، وتجاوزت المعهود من الانتهاكات الروتينية لسجناء الرأي، لتصل الى حد المجاز الجماعية كما حدث في رواندا والبوسنة وكوسوفو. ومن الغريب ان يتجاهل الاوروبيون الادعاءات التي انطلقت من رواندا مؤخرا بان لفرنسا دورا في مجازر الابادة التي حدثت على اراضيها قبل ستة عشر عاما، وان الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا ميتران، مشمول بتلك الادعاءات. وما يجعل الامر محيرا بشكل اكبر ان منظومة حقوق الانسان بشكلها الحالي تمتد بجذورها الى ايام الثورة الفرنسية، وان الفكر الليبرالي المعاصر الذي تمرد على النظم الايديولوجية والدينية السابقة التي تعتبر من روافد الممارسات غير الانسانية، بدأ يتراجع عن قيم الحرية ومبادئها، وأصبح يضغط على الحريات الشخصية بشكل مزعج. وليس هناك مصداق لذلك اوضح من التوجه الفرنسي الحالي لمحاصرة الحريات الشخصية للمسلمين ومنها حرية اللباس والالتزام. هناك اذن مفارقات واسعة في السجال حول حقوق الانسان والقيم الليبرالية التي يقوم عليها الفكر السياسي الغربي المعاصر، وبداية تراجع عن القيم التي قامت على اساسها النهضة الصناعية والفكرية الحديثة في اوروبا. هذه المفارقات بدأت تنعكس على منظومة القيم المرتبطة بالحداثة الغربية، حتى على ثقافة “ما بعد الحداثة”، اذ اعيد تدوير المفاهيم المرتبطة بالحريات ليس في افقها المطلق، بل ضمن مقولات مستجدة مثل الامن الفردي والمجتمعي، لتعود صياغة تلك المفاهيم اكثر ارتباطا بالمصلحة المادية منها بالحقوق الفردية في مجال الحريات. في السابق كانت الحرية الشخصية حجر الزاوية في التشريعات الغربية، ولم تؤثر قيم الحداثة او ما بعد الحداثة على تلك القيم باعتبارها من الثوابت التي لا مساومة عليها ولا تنازل عنها. ولكنها اصبحت اليوم احدى ضحايا ثقافة ما بعد الحداثة، واصبحت الحريات الشخصية خاضعة للنقاش المرير والمتواصل بعد ان سلبت منها قيمة القداسة وأخضعت لمنطق التفكير الموضوعي المرتبط بالمصلحة، والبعيد عن “الدوغما” السياسية . واذا كان المسلمون اول ضحايا تداخل الفكر الليبرالي مع قيم ما بعد الحداثة، فان المواطن الغربي لن يكون بمنآى عن الآثار السيئة لهذا التحول، بل سيكون اكبر ضحاياه مستقبلا. فانكماش دائرة الحريات والحقوق المدنية في ظل التوجه الامني العالم للقوى الغربية، امر مقلق للجميع، ولا يمكن لفرد او مجموعة الشعور بالامن بعيدا عن حكم القانون القائم على احترام الحريات العامة والحقوق المدنية والشرائع الدولية التي يفترض ان تعبر عما وصلت اليه الانسانية من تقدم في مجال الحقوق. هل تجاوزت اوروبا الخطوط التي رسمتها لنفسها خلال العقدين الاخيرين في ما يتعلق بقيم حقوق الانسان والحقوق المدنية والسياسية؟ وهل ان الاوروبيين الجدد أصبحوا أقل حماسا للقيم الانسانية عمن سبقهم في عصر النهضة الحقوقية التي تبلورت في الثمانينات والتسعينات؟ عدد من الامور كان يفترض ان يدفع اوروبا لمواقف وسياسات مختلفة. من هذه الامور: توسع نشاط المنظمات غير الحكومية بشكل اضطر الحكومات الديمقراطية للاعتراف بها وتشجيعها على اداء دورها في تحريك المياه من اجل الاصلاح العام في بلدان العالم. ثانيها: نمو الوعي العام بموضوعة الحقوق في مقابل منطق “الواجبات” التقليدي، وما لذلك الانتقال من اثر على انماط التفكير والتشريع والسياسات المحلية والدولية. ثالثها: اهتمام الامم المتحدة بموضوعة حقوق الانسان، وهو اهتمام تجسد في قمة خاصة قبل خمسة عشر
عاما لمناقشة تلك الموضوعة. رابعها: تنامي الشعور الغربي بتفوق الفلسفة السياسية الغربية على بقية الفلسفات والمذاهب السياسية خصوصا بعد ضعف الشيوعية وتشرذم الانظمة التي كانت قائمة على اساسها، وبعد شيوع مقولات واطروحات فكرية تؤكد هذا التفوق كاطروحة فرانسيس فوكوياما الذي يعتبر ان التاريخ اقترب من نهايته بتفوق الليبرالية الديمقراطية على بقية الفلسفات. خامسا ان تلك التطورات تزامنت مع حوادث اخرى من بينها اطروحة صراع الحضارات التي كتب عنها بشكل فيه من الاسهاب الشيء الكثير. هذه الاطروحة ساهمت في احداث حالة استقطاب ثقافي وديني ادت الى تبلور سياسات غير مستقيمة مع مصلحة العرب والمسلمين. هذه الامور جميعا ساهمت في اذكاء وعي شامل لدى الكثير من الشعوب والنشطاء في الوقت الذي تصاعدت فيه الهجمة الاستعمارية على المنطقة العربية. هذا الوعي تبلور لاحقا في حركات سياسية مناوئة للهيمنة الغربية ورفض الانظمة الاستبدايدة القمعية. كما ادى الى حالة من التشوش الذهني في افكار الكثيرين من المحسوبين على النخب الفكرية في الغرب. ومع تصاعد التحديات الامنية التي تواجه العالم بدا لوهلة ان مواجهتها يتطلب “التضحية” ببعض الحقوق وعدم الاصرار على حماية الحريات العامة بالنمط الذي تتطلبه الاطروحات الاصلاحية في العالم الغربي. انها محاولات مستمرة ويخشى من تحولها الى ثقافة سائدة تفرض نفسها على الساسة كما على النخب المثقفة ومن بينهم العلماء و الكتاب والادباء والاعلاميين. الغرب يعيش اليوم حالة تشوش ذهني بين اولئك الذين ينطلقون على اساس ما يعتبرونه ثوابت مستوحاة من التراث الفكري الذي تبلور في مرحلة التنوير بعد تجاوز حقبة “محاكم التفتيش” السيئة الذكر.، والذين يرون ان هذه “الحرية” تصبح ترفا اذا كان هناك خطر امني محدق بالجميع. وهنا تقع المغالطات والالتباسات. فمن الخطأ الكبير التخلي عن انجازات عصور النضال السياسي والحقوقي تحت ذريعة المخاطر الامنية. ومن الخطأ ايضا اعادة صياغة قوانين ورؤى بعيدة المدى انطلاقا من واقع مفروض ومذموم على السنة بعض المحسوبين عليه. العالمان العربي والاسلامي، مم يعانيان؟ التخلف العلمي والتكنولوجي وحدهما لا يوفران تفسيرا كافيا لهذه المعاناة. انهما يعانيان من محاولات حثيثة لابقائهما متخلفين تكنولوجيا وسياسيا وانسانيا بهدف ابقائهما تحت السيطرة. وهذا التخلف لا ينقلب الى تقدم وقوة بالامتلاك الظاهري لوسائل القوة المستوردة من الخارج. فامتلاك الاسلحة المتطورة من خلال صفقات سلاح عملاقة لا تجعل البلد المستورد قويا، بل تبقيه مرتهنا للجهة المصنعة لتلك الاسلحة. وبناء العمارات الشاهقة لا يعني التقدم والازدهار، ما لم تكن هناك سياسة تنمية مستدامة، وسياسات اقتصادية تحول المجتمعات من حالة الاستهلاك المتواصل بدون حدود الى حالة الانتاج والعطاء والتطوير. ولا يتحقق ذلك الا ببناء الانسان. والانسان لا يبنى الا اذا شعر بحريته من جهة، ودوره المحوري كشريك في عملية البناء من جهة اخرى. وكلا الأمرين يتطلبان تطويرا حقيقيا للاوضاع الحقوقية والسياسية. ان الشعور الحقيقي بالامن والاستقرار شرط لبناء الانسان واشعاره بقيمته. والامن الشخصي اساس لتعميق ثقة الانسان بنفسه وبدوره. وهذا الامن يعني ضمان حقوقه الانسانية، وهذا الضمان يجعله قادرا على ممارسة حقوقه العامة بدون خوف او وجل. فاذا استطاع المواطن ان يعبر عن موقفه السياسي او الاداري بدون خشية من بطش السلطان، انفتحت اساريره على العطاء والابداع، واستطاع كسر قيود الارتهان والاستعباد. فالحر يستطيع التفكير بدون قيود او ضغوط، وهذا التفكير يؤكد للشخص قيمته، ويشجعه على مواصلة الحوار والسجال. انه ضرورة لبناء الفرد الفاعل في المجتمع القائد. ومن الخطأ الكبير تأكيد بعض الجهات الغربية على “عالمية حقوق الانسان” و “خصوصية النظام السياسي”. بمعنى ان الدول الغربية مستعدة للدفاع عن حقوق الانسان في بعض البلدان العربية، ولكنها ليست في موقع يؤهلها لطرح مشروع تطوير سياسي بعيدا عن الخصوصيات المذهبية والدينية. فالحقوق مرتبطة بالوضع السياسي، ويستحيل ان يكون لنظام ما سجل نظيف في مجال حقوق الانسان، مع بقائه متخلفا من الناحية السياسية. فالتطوير السياسي شرط لضمان نظافة ملف حقوق الانسان، السؤال هنا: ما هي حدود “الحقوقي” وما المدخل لـ “السياسي”؟ البعض يؤكد على اختلاف المفهومين، ويذهب الى ضرورة عدم الخلط بينهما. بينما الواقع ان حقوق الانسان مرتبطة بشكل وثيق بالوضع السياسي، ولا يمكن التفريق بينهما. ولذلك يلاحظ ان منظمات حقوق الانسان الدولية لا تستطيع الانفكاك عن التطرق للوضع السياسي في اي بلد عندما تتعاطى مع قضية حقوقية مرتبطة ببعض مواطنيه. وذلك لان انتهاك حقوق الانسان انما هو امر لاحق لما يمارسه النشطاء. هؤلاء تبدأ محنتهم الحقوقية بتصديهم للاوضاع السياسية المتردية في بلدانهم، فيكون مصيرهم التنكيل بالاعتقال والتعذيب. فلو تطورت حماية حقوق الانسان في هذه البلدان لاستطاع المواطنون التحرك بشكل اكثر جدية لتغيير اوضاعهم. وبالتالي فمن الصعب استمرار بقاء النظام القمعي اذا منع من انتهاك حقوق مواطنيه. ان عملية التغيير مثل كرة الثلج، فاذا توفرت حماية لحقوق الانسان، كان ذلك دعما لمشروع التغيير السياسي، خصوصا اذا كانت هناك قيادات ميدانية فاعلة. فبامكان هذه القيادات ادارة مشروع التغيير بشكل فاعل اذا كانت بمستوى المسؤولية من جهة، واذا شعرت بان النظام مقيد في انتهاكاته
لحقوق الانسان. المشكلة ان الغرب ليس مخلصا لشعاراته خصوصا في المجال الحقوقي, ولذلك فهو قادر على التعامل مع اشد الانظمة القمعية، بدون ان يوجه انتقادا فاعلا لأي منها، ولا يرى غضاضة في التعاطي مع انظمة القمع في كافة المجالات. هذه الحقيقة تفسر بطء التغيير السياسي اذ تؤكد ارتباط التغيير بواحدة من حالتين: اما ان يكون لدى النظام قوة سياسية فاعلة قادرة على صنع التغيير، او تكون القوى الاخرى الضاغطة عليه لاحداث ذلك التغيير جادة في طرحها ومشروعها. وقد اثبتت التجارب عدم امكان التمييز بين ما هو “حقوقي” وما هو “سياسي”. فالحقوق الانسانية مرتبطة بالحقوق المدنية والسياسية، ولا يمكن الفصل بينهما، كما لا يمكن التعاطي مع احداهما بدون التعرض للآخرى. مطلوب من نشطاء المجتمع المدني دفع عملهم الى الامام بتصعيد لهجة الخطاب السياسي ضد انظمة الحكم المستبدة التي ما فتئت تمارس العنف ضد المواطنين. ومطلوب منهم ايضا تفعيل حالة التواصل مع النشطاء الدوليين في المجالات الحقوقية والسياسية. ففي عصر “عولمة” حقوق الانسان، من الضروري ايضا السعي لـ “عولمة” مباديء الحرية والمساواة و الشراكة السياسية والحياة الدستورية والتداول على السلطة وسيادة حكم القانون وحق تقرير المصير. فمن السذاجة بمكان الاعتقاد بامكان حماية حقوق الانسان في ظل انظمة القمع والتسلط والاستبداد. وانها لخدعة كبيرة ادعاءات القوى الغربية بجديتها في الدفاع عن حقوق الانسان ما دامت تحمي الاستبداد وتتحالف معه وتدافع عن مصالحه.
د.سعيد الشهابي