الأرشيف

البعد الامريكي في الازمة البحرينية المتفاقمة – حركة أحرار البحرين

ما الذي يجري في البحرين؟ أهو صراع مذهبي ام سياسي؟ وما تفسير استمرار التوتر في هذا البلد الخليجي الصغير في ظل ما يعتبره الحكم “مشروعا اصلاحيا”؟ وما أفق الحل السياسي لأزمة سياسية تواصلت منذ العام 1922 ولم تتوقف الا نادرا؟ في زمن يتسم بسرعة حركة الاشياء، قد تبدو الاجابة على هذه التساؤلات بديهية، ولكن يمكن القول انه ليس هناك بلد عربي آخر شهد مخاضا سياسيا بين طرفين لم يتغيرا على مدى تسعة عقود متواصلة، كالبحرين. وربما التغيير الوحيد الذي حصل يتمثل بإعادة تركيب المكون الحاكم في 1971 بانفصال الطرف البريطاني من الصراع المباشر مع الشعب البحراني، ودخول الامريكيين على الخط بشكل يتضح تارة ويختفي أخرى.

 صاحب ذلك التغير امور ثلاثة: اولها تحول البحرين الى قاعدة ثابتة للاسطول الخامس الامريكي الذي يجوب مياه الخليج ويلعب دورا واضحا في الحروب التي تدور في تلك المنطقة. ثانيها: بروز السفير الامريكي كبديل للمعتمد السياسي البريطاني الذي كان يتحكم في شؤون البلاد بشكل عملي منذ توقيع “اتفاقية منع القرصنة” في 1820. ثالثها دخول البعد الاسرائيلي في معترك الصراع من بوابة السفارة الامريكية، بشكل يزداد وضوحا بمرور الوقت. ويمكن اعتبار الهجمة الامنية الاخيرة ضد النشطاء السياسيين والحقوقيين، انما جاءت بضوء اخضر من الجانب الامريكي مباشر. وثمة دلائل عديدة لذلك: اولها التسريبات التي نسبت للسفير الامريكي في المنامة، آدم أيرلي، للعديد من النشطاء في اجتماعات خاصة في الشهور الاخيرة والتي مفادها ان هناك ضربة امنية قادمة ستقوم بها الحكومة ما لم تغير المعارضة مسارها. والمقصود بالمعارضة هنا المجموعات السياسية والحقوقية التي رفضت الانخراط في المشروع السياسي الذي طرحه الحاكم قبل عشرة اعوام، والذي وصل الى طريق مسدود. ثانيها: تصاعد عمليات رصد تحركات المعارضين بشكل مكثف في الفترة الاخيرة من قبل عناصر انخرطت في المشروع السياسي الذي لم ترسم معالمه الاستخبارات الامريكية فحسب، بل جندت له “دعامات” من عناصر معارضة سابقة لضمان نجاحه. ثالثها: التصريحات التي ادلى بها السفير الامريكي قبيل بدء الحملة الامنية بثلاثة ايام فقط. فقد قال في مقابلة مع صحيفة “الوسط” البحرينية نشرت يوم الثلاثاء 10 اغسطس: (إذا كان لدى أفراد المعارضة مشكلة مع بلدهم ويهتمون ببلدهم، فمن الأفضل أن يبقوا فيه ويبحثوا عن طريقة لتصحيح الأمور في هذا البلد لا خارجه، وخصوصاً أنك في البحرين ما دمت تحترم القانون لن يتم الزج بك بالسجن، والمفترض أن هناك مساحة حرية جيدة للقيام بالعديد من الأمور وانتقاد النظام السياسي، إذاً لماذا اللجوء إلى لندن والولايات المتحدة؟). هذا التصريح تبعه في اليوم التالي مباشرة تصريح للحاكم، الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، قال فيه: ” نرى بعض الأفراد من المواطنين يصرون أن يبقوا خارج وطنهم ويسيئون له ولانفسهم بدون سبب وبمقدرتهم الحضور لبلدهم والعمل وإبداء آرائهم بكل حرية فالأبواب مفتوحة للجميع مشاركين أهلهم هذا الشهر الفضيل”. هذا التصريح الذي يبدو انه دعوة لعودة المعارضين من الخارج، تبعه تصريح آخر من الحاكم نفسه في اليوم التالي (الخميس 12 اغسطس) بعد لقائه مسؤولي جهاز الامن: “يجب إيقاف كل أنواع التحريض التي يقوم بها بعض المحرضين للإساءة والتغرير بأبنائنا ويتحمل هؤلاء المحرضون المسئولية كاملة عن ذلك وعليهم التوقف منذ الآن عن هذه الأعمال والممارسات المشينة، وعلى وزارة الداخلية والوزارات المعنية اتخاذ الإجراءات لمنعهم من ذلك حرصاً على السلم الأهلي وعلى أبنائنا من الخطر وحمايةً لوطننا العزيز ومواطنيه الكرام”. وفي صباح اليوم التالي حدث اول اعتقال لناشط حقوقي وسياسي، هو الدكتور عبد الجليل السنكيس، رئيس مكتب حقوق الانسان بحركة الحريات والديمقراطية (حق) لدى عودته مع عائلته من لندن. والدكتور السنكيس استاذ بجامعة البحرين يعاني من اعاقة جسدية دائمة، وتنحصر حركته بالكرسي الطبي. وبذلك بدأت الحملة الامنية التي طالت عشرات المواطنين، في مقدمتهم نشطاء حقوق الانسان وعلماء الدين والمشاركون في الاحتجاجات السلمية اليومية.

ما خلفية هذا التداعي في المشهد الامني؟ الواضح من سياق التطورات السياسية خلال العقود الاربعة الاخيرة، اي منذ الانسحاب البريطاني من مشيخات الخليج في 1971، ان الصراع السياسي في البحرين لم يتوقف. فاذا كان الحراك السياسي قبل ذلك مؤطرا بالتصدي للاستعمار، فانه في المرحلة اللاحقة تحول الى نضال  وطني من اجل الديمقراطية. وتباطأت حركة الاحتجاجات في النصف الاول من السبعينات بعد كتابة دستور عقدي حظي بتوافق بين الشعب والعالة الحاكمة، وانتخاب مجلس وطني على اساسه. ولكن منذ ان قرر الحكم تجميد العمل بمواد ذلك الدستور التي تنظم الممارسة السياسية في مثل هذه الايام قبل 35 عاما (25 اغسطس 1975) دخلت البلاد مرحلة توتر سياسي وامني تواصلت حتى الآن. وبموازاة ذلك كان الوجود الامريكي الذي حل محل البريطانيين بتوقيع اتفاقية خاصة مع العائلة الحاكمة، يزداد حضورا على كافة الصعدان. وفي ذروة الحرب العراقية – الايرانية في منتصف الثمانينات اعلن البنتاجون عن الشروع ببناء قاعدة كبيرة في وسط البلاد، وأشرف على تصميمها ووجه المقاولين لارسال عطاءاتهم الى واشنطن مباشرة. هذا الحضور الامريكي المكثف يفسر جانبا من تفسير ظروف التصدي للحركة الوطنية التي ما فتئت تطالب باعادة دستور البلاد الشرعي كأساس للوئام الوطني. في غضون ذلك تواصلت الاعتقالات والضربات الامنية لكافة فصائل المعارضة، واعتقل المئات من المنتسبين لتنظيمات اسلامية ويسارية في ظروف قاسية، خصوصا في ظروف الحرب المدمرة بين العراق وايران آنذاك. وجاءت ازمة الكويت لتكون محطة محطة اخرى على طريق البحث عن حلول سياسية لازمات مستعصية في العالم العربي، في مقدمتها ازمة الاستبداد. ووجدت امريكا نفسها مضطرة لاحتواء الرفض العام للحرب، بتخفيف القبضة الامنية ضد المعارضين في تلك الدول. وشهدت المعارضة البحرانية فرصة لتجديد نشاطها بتقديم العرائض وتصعيد الضغط على الحكم. ولكن ما ان انتهت ازمة الكويت حتى عادت ظروف التأزم والاحتقان التي ادت للانتفاضة الشعبية التي بدأت في نهاية 1994 واستمرت خمسة اعوام.

 الاحتقان الامني الحالي بدأ في عهد الحاكم الحالي، الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، الذي ورث الحكم بعد وفاة والده في 1999. وكانت امامه فرصة تقويم الوضع بعد التجربة القاسية في التسعينات التي كشفت البحرين على نطاق واسع امام المنظمات الحقوقية الدولية واللجان الخاصة بالامم المتحدة التي اصدرت قرارات ضد البحرين. وهنا تدخل الامريكيون بشكل قوي لصياغة مشروع سياسي خاص من نوعه. وتم الترويج للمشروع السياسي انه تحول نوعي في الممارسة على اساس ان النظام سوف يتحول الى مملكة دستورية، وان المواطنين سوف يشاركون في العملية السياسية ضمن “منظومة برلمانية” متميزة. وفي الوقت نفسه كان من بين الشروط الامريكية التطبيع التدريجي مع “اسرائيل”.  وقتها لم يتضح للكثيرين ان المشروع السياسي الذي عملت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية على الاعداد له، انما كان محاولة لاخراج نظام الحكم من المأزق السياسي الناجم عن عقود من الصراع مع فئات مختلفة من الشعب. فالامريكيون لم يكونوا عرابين فحسب، بل وفروا ضمانات لبعض الاشخاص الذين وافقوا على الانخراط في “المشروع  الاصلاحي” بعدم التعرض الامني لهم وببعض المناصب في الدولة. ولكن الاعلان في فبراير 2002 عن فرض دستور جديد على البلاد اوصل المشروع الى ذروته، فهو اما ان يتواصل او يتراجع. وبعد ثمانية اعوام من الممارسة السياسية المشوبة بالمطبات والتوترات، انتهى الامر الى حالة استقطاب حادة دفعت الامريكيين لاتخاذ قرار المواجهة مع القوى الوطنية المعارضة.

تصريح السفير الامريكي قبل اسبوعين، كان بعيدا عن اللباقة والدبلوماسية، الامر الذي أجج في نفوس الكثيرين مشاعر خيبة الأمل، واصبحوا، للمرة الاولى في التاريخ الحديث، يحملون الولايات المتحدة مسؤولية التداعي السريع في مجال حقوق الانسان، والتضييق الشديد على الحريات العامة. فالاعتقالات التي تمت في الاسبوعين الماضيين تميزت بعدد من الامور: اولها انت تمت خارج الاطر القانونية، فلم يكن لدى السجانين اوامر قضائية بالاعتقال، ثانيها: ان المعتقلين منعوا من حقوقهم القانونية، سواء الدولية ام المحلية، فحتى الآن لم يتم إطلاع ذويهم على اماكن اعتقالهم، وما اذا كانوا جميعا على قيد الحياة ام تمت تصفية بعضهم، ثالثها: انهم منعوا من حقهم في في حضور محاميهم خلال جلسات التحقيق لضمان حقوقهم ومنع الاعتداء عليهم، ثالثا: انهم حوكموا من قبل الاجهزة  الحكومية وادينوا قبل ان توجه لهم  اية تهمة او يقدموا للمحاكمة، بل  اتخذت اجراءات صارمة بحقهم، فصدر قرار بتوقيف الدكتور السنكيس عن العمل كمحاضر بجامعة البحرين. رابعا: ان العديد من المعتقلين كانوا من نشطاء حقوق الانسان الذين يفترض ان يتمتعوا بحصانة ضد الاعتقال وفق قرار الجمعية العمومية رقم 53/144 بتاريخ 9 ديسمبر 1998. ولذلك جاء رد فعل المنظمات الحقوقية الدولية هذه المرة حاسما، بادانة السلطات البحرينية بشكل قاطع. فمنظمة هيومن رايتس ووج اصدرت بيانا عنوانه: “يجب إخلاء سبيل نشطاء المعارضة أو نسب الاتهامات إليهم”. وقال جو ستورك، مدير قسم الشرق الاوسط بالمنظمة: “ان دولة تحترم حقوق الانسن، كما تزعم البحرين، لا تعتقل الناس لمجرد انهم ينتقدون الحكومة بقوة”. واصدرت منظمة العفو الدولية ولجنة الدفاع عن الصحافيين ومقرها نيويورك، والفيدرالية الدولية لحقوق الانسان، ومنظمة “مراسلون بدون حدود” والمنظمة الاسلامية لحقوق الانسان، بيانات استنكار لاعتقال هؤلاء النشطاء، وطالبت بالافراج الفوري عنهم. واصدرت 26 منظمة  من مختلف البلدان العربية: مصر واليمن وسوريا والسعودية وفلسطين، بيانا بعنوان: “تحت رعاية ملكية.. تصاعد القمع بحق المعارضة السياسية ومدافعي حقوق الإنسان في البحرين” جاء فيه: أن تأمين الاستقرار والسلم الأهلي وتعزيز المكانة السياسية لدولة البحرين وتحسين صورتها، يتطلب إحداث قطيعة فعلية مع سياسات وممارسات التمييز المنهجي بحق أغلبية سكان البحرين، ويقتضي في ذات الوقت تبني حزمة من الإصلاحات التشريعية، تكفل اتساق التشريعات العقابية وتدابير مكافحة الإرهاب مع المواثيق والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتؤمن إجراءات وتدابير فعالة لمنع الإفلات من العقاب على جرائم التعذيب، والاستخدام المفرط للقوة من جانب الأجهزة الأمنية، وتضمن الحماية القانونية لمؤسسات حقوق الإنسان والمنخرطين في أنشطتها وفقا للإعلان العالمي لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1998.”

ما دوافع هذه الاجراءات؟ والى اين تسير الاوضاع في هذا البلد الخليجي الصغير؟ ان من الضروري استحضار عوامل اربعة تتفاعل بشكل مستمر لتوصل الامور الى ما وصلت اليه. اولها طبيعة نظام الحكم وخلفياته التاريخية وعلاقاته غير المستقرة وغير المحددة مع اهل البلاد الاصليين (شيعة وسنة)، ثانيها السياسة الامريكية في منطقة الخليج وتلميحها المتواصل لتوجيه ضربة لايران، والسعي لمنع ردود الفعل الشعبية في ما لو حدث ذلك. وقد خصصت واشنطن مؤخرا 580 مليون دولار لتحديث القاعدة العسكرية لتكون جاهزة فيما لو اتخذ قرار بالاعتداء على  ايران. ثالثها: التراث التاريخي للمعارضة البحرانية، وهو تراث نضالي متواصل عبر الاجيال ومتصل بقضايا الامة خصوصا قضية فلسطين وتداعياتها واستحقاقاتها في الوقت الحاضر، رابعها: البعد الاسرائيلي الذي تعمق في ظل النفوذ الامريكي، وهو بعد لا يمكن التقليل منه خصوصا في ضوء الزيارات العلنية والسرية بين المسؤولين البحرينيين، ابتداء بالحاكم وصولا الى السفيرة البحرينية اليهودية في واشنطن التي اختيرت لتكون حلقة الوصل مع الجهات اليهودية. الامر الذي فاجأ الكثيرين، صدور بيان رسمي عن جهاز الامن الوطني مطلع الاسبوع ينفي بشكل قاطع وجود اية علاقة بين السجناء البحرانيين وما يسمى “الخلايا النائمة” وايران، الامر الذي يؤكد ان المعارضة البحرانية مستقلة تماما، وتنطلق من ارض وطنها، وليس وفق اجندات خارجية. هذه الحقائق تساعد على فهم ديناميكية التفكير السياسي والامني لدى المسؤولين والدبلوماسيين الامريكيين في المنامة، وربما الدوافع وراء التصعيد الامني الذي شهد حالات متواترة من خطف الابرياء وتعذيبهم بالاضافة الى الاعتقالات الواسعة. وكان عدد من المعتقلين في ا لحملة الاخيرة قد شارك في ندوة عقدت هذا الشهر بمجلس اللوردات البريطاني كشفت بعض الحقائق حول العودة لممارسة التعذيب بحق سجناء الرأي، الامر الذي شجبته المنظمات المشاركة وتناقلته وسائل الاعلام ومن بينها قناة “الجزيرة”. البحرين اذن تعيش حالة احتقان جديدة، تبدو انها الاصعب منذ استلام الحاكم الحالي مقاليد الحكم قبل عشرة اعوام. ويزيد من تعقيدها البعدان الامريكي والاسرائيلي. وربما الدرس الاخطر انها، في نظر المعارضة البحرانية وبعض المراقبين، تعتبر الاعلان الاوضح لنهاية المشروع السياسي والعودة الى العهود السوداء التي سبقته. هذه المرة يتم ذلك بدور امريكي مكشوف، الامر الذي ينذر بتوسع دائرة  الصراع في منطقة متوترة، تعيش هاجس الحرب، وترفض الجنوح نحو الاستقرار القائم على اساس الديمقراطية وحقوق الانسان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق