الأرشيف

حرية التعبير مقابل تعارض المصالح

حرية التعبير مقابل تعارض المصالح بقلم: الأستاذ محمد إقبال أساريا (اغسطس 2001)  هناك طرحان حول موضوع حرية التعبير في أوساطنا الإسلامية. طرح يقول بأننا نتعرض لهجوم خارجي معادٍ للإسلام وأننا بحديثنا المستمر عن ضرورة السماح لحرية التعبير إنما نقع ضحية للعبة غربية تريد النيل من ديننا وبلداننا. ولذلك فإن الذين يتحدثون عن ضرورة فتح المجال لحرية التعبير إنما يقصدون حرية الإساءة للإسلام وإنما يستخدمون هذا الشعار لمساعدة الغرب الذي يعادينا في كل شيء. هذه وجهة نظر مطروحة في الأوساط الإسلامية. وهناك وجهة نظر أخرى تقول إن أية أمة لا يمكن أن تتطور إلا إذا سمحت بالانتقاد وبحرية الرأي، وأن الآراء المطروحة للحوار إنما يطرحها أناس مخلصون لبلدانهم وأمتهم بالدرجة الأولى. وهم يطرحون المواضيع الحرجة المتعلقة بالتراث والنص الديني وعلاقة الدين بالحياة لأنهم يمارسون قدراتهم الذهنية التي وهبها الله لهم. ولذلك فإن تعطيل تلك القدرات هو تعطيل لما منحه الله الإنسان من قدرة التفكير التي تسبق قدرة الاختيار. وقدرة التفكير والاختيار هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، ولذلك فإن السماح لحرية التعبير، حتى لو أزعجتنا، أمر ضروري وملازم لحياة الإنسان الطبيعية. إننا نراوح بين وجهتي النظر المذكورتين أعلاه، ولكننا بحاجة إلى التعمّق أكثر لنرى أن الادعاء بالحرية والالتزام بها وتطبيقها ليس كما يبدو لنا دائماً. فحرية التعبير تصطدم بمصالح معينة داخل أي مجتمع، وهذه المصالح تأخذ الأولوية في أكثر الأحيان على الإيمان المبدئي بهذه النظرة أو تلك. ولتوضيح ما أقول أذكر أنه عندما كنت أحرر مجلة Inquiry الشهرية المتخصصة في الشؤون الإسلامية، كنا قد كتبنا موضوع غلاف حول باكستان، وحملت المجلة علم باكستان مع عنوان يتساءل عن أسس تكوين الدولة الباكستانية، وطرحنا أسئلة حرجة حول مفهوم باكستان من الأساس. كان ذلك في زمن الجنرال ضياء الحق الذي كان يحكم بصورة عسكرية. ومع ذلك دخلت المجلة ووزعت في جميع أرجاء باكستان ولم يعترض عليها أي مسؤول حكومي. في نفس الفترة كنا نكتب عن الهند، البلد الذي لديه ديمقراطية رسمية ويسمح بحرية التعبير بحماية القانون. المجلة منعت من الهند لأنها كانت أيضاً تكتب مقالات عن الأوضاع الهندية، واضطررنا مرتين للذهاب للمحكمة العليا في الهند لإلغاء قرار المنع الحكومي. وكانت المجلة تتعطل ثلاثة أشهر لدى المكاتب الحكومية التي تراقبها. وكذلك الأمر بالنسبة لماليزيا التي كانت تسمح بحرية التعبير، كانت المجلة تسحب من الأسواق كلما كتبنا عن الوضع الماليزي. الأمر نفسه كان يحدث عندما كنت أحرر في جريدة Crescent، ومقر الجريدة كان كندا، وذات مرة حملت معي أعداد منها وسافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك على الحدود سحبت جميع الأعداد وفتشت تفتيشاً دقيقاً، لأن في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة في حرب إعلامية مع الإسلاميين. إن ما أريد أن أقوله هو أن السماح للمجلة بدخول باكستان لم يعترض عليه أحد لأنه لم يتعرض لمصالح البارونات المسيطرين على مقدرات البلد. المجلة تمنع من الهند ومن أمريكا ومن ماليزيا لأن هناك من يمسك بزمام الأمور ويرى أن ما يكتب فيها يضر بمصالحه. هذه النقطة هامة وفهمها يوفر علينا الصراع النظري العقيم. إن الله لا يمنع الإنسان من التعبير عن رأيه، وإلا يحرمه من نعمة العقل. ولكن المصالح الخاصة لا ترتضي قول كلام معين في زمان معين ومكان معين. الأمر الآخر الذي أود الإشارة إليه، هو وجود مصالح مشروعة لأي أمة ما، وهناك خطوط حمراء يتفقون عليها بصورة ديمقراطية. فأي حديث يثير الفتنة بين الناس ويحول السلم بين الأهالي إلى حرب أهلية لا يسمح به في أي بلد. ولذلك فنحن بحاجة إلى طرح المواضيع التي تصب في مصلحة الأمة، مصلحتها من ناحية تنميتها ومن ناحية حفظ السلام بينها ومن ناحية الضرب على المصالح الخاصة المضرة بالمصالح العامة. إننا بحاجة لأن نرد على الكلمة بالكلمة، لأن الكلمة لا تقتلها الرصاصة ولا تمنعها الضوضاء. المشكلة التي تواجهنا هي كيفية تحديد النقاش لكي يقع في دائرة الصالح العام دون عبور الخطوط الحمراء المتفق عليها بصورة جماعية وديمقراطية. فالغرب مثلاً لديه خطوط حمراء تمنع الإنسان من حرية التعبير، فيما لو حاول أن يتخطاها. فمثلاً، لا يستطيع المرء أن يتحدث عن معاناة اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية بطريقة مخالفة لما هو مطروح في الدوائر السياسية والثقافية في أوروبا وأمريكا. ومع الأيام تزداد الخطوط الحمراء. وحتى أصبحنا الآن لا نستطيع الحديث عن مواضيع الشذوذ الجنسي بالطريقة التي كان يتحدث بها الجميع قبل عدة سنوات. المخرج الذي يسمح للغرب بوضع هذه الخطوط الحمراء أنهم يقولون بأن هذا الأمر جاء بعد حوارات مستفيضة بينهم وأن هذا يمثل إجماعهم بصورة معينة. نحن أيضاً يمكننا أن نطرح جميع المواضيع للنقاش والحوار ثم نخرج بأسس معينة لحماية السلم الأهلي في مجتمعاتنا. ولذا فإن بالإمكان الحديث مع الذين يتهجمون على الإسلاميين، للاتفاق على أسس معينة، مثلاً عدم شتم الرسول (ص) والمقدسات لأنها لا تخدم الحوار، وإنما تثير الناس وتؤدي إلى انعدام السلم في المجتمع ولا تخدم موضوع الحريات العامة من قريب أو بعيد. وهذا سيدفع الاتجاهات العلمانية لمعالجة علاقاتهم بعقيدة الأمة وتراثها والوصول إلى موقف أكثر نفعاً للجميع.

من جانب آخر فإن على الإسلاميين ألا يستخدموا عنوان الدين لإرهاب الآخرين ومنعهم من التعبير عن آرائهم. فأي أمة تمنع الانتقاد الداخلي لن تحصل على قوتها المطلوبة لدفع المسيرة التنموية إلى الأمام. فبدون حريات سياسية لا يمكن أن يتطور المجتمع، لأن الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية جميعها مترابطة ويعتمد بعضها على البعض الآخر ولا يمكن فصلها وتقديم جزء منها على غيرها. هذه تجارب أمامنا وعلينا أن نلحق بها، وإلا فما يواجهنا هو المزيد من التخلف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق