الأرشيف

بقلم: د. منصور الجمري (فبراير 2001) منذ مطلع ديسمبر 2000، والبحرين تمر في حركة فكرية-سياسية ناتجة عن مشروع ميثاق العمل الوطني الذي استهدف تغيير دستور دولة البحرين. وقد توسع الحديث ليشمل مفهوم شرعية السلطة السياسية. الميثاق الوطني تضمن أساسا تغيير نظام دولة البحرين من “الامارة” إلى “المملكة”، بالإضافة لتغيير تركيبة السلطة التشريعية من مجلس إلى مجلسين.  الفكر السياسي يحدثنا بأن أشكال النظام السياسي تتطور مع الزمن، وتتحدث النماذج عن نشوء “الملكية” (في الأساس) كنظام تقليدي “أبوي” يتعامل مع المحكومين كأتباع. هؤلاء الأتباع ليس لهم الحق في مساءلة الملك (صاحب السيادة العليا في الدولة)، والاتباع مطلوب منهم الخضوع الكامل وانتظار منح ومكرمات الملك، الذي قد يتفضل ببعضها على من يشاء ويمنعها عمن يشاء. والملك قد يستشير “اتباعه” ولكن تلك الاستشارة غير ملزمة له أساسا لأنه هو صاحب السيادة وهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وذاته مصونة لا تمس، وهو مصدر القانون. وبما أنه مصدر القانون، فإن بإمكانه إصدار “مرسوم” أو “أمر” يتم نشره في الجريدة الرسمية ليحمل قوة القانون، تقوم على إثره الدولة بمعاقبة من يخالفه. هذا النظام مماثل للنظام الملكي القديم الذي عبرت عنه الملكة بلقيس والتي ورد ذكرها في القران الكريم {قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون} وهذا النظام أيضا هو ما أطلق عليه مفكرو الثورة الفرنسية اسم “النظام البائد” ancien regime.  هذا النمط من الملكية، يؤدي للاستبداد والطغيان وزيادة معاناة المحكومين المظلومين الذين لا يجدون طريقا للتعبير عن آرائهم أو الدفاع عن مصالحهم المشروعة. وفي هذه الحالة فإن المقاومة الشعبية تظهر على السطح بعد أن يبلغ الأمر مرحلة عدم التحمل. أمام هذه المقاومة قد يسعى الملك للاستعانة ببعض النبلاء وعلية القوم وقد يستطيع إنشاء طبقة نفعية (اطلق عليها المهاتما غاندي اسم الطبقة الطفيلية) لكي تمتص بعض من الضربات الموجهة من الشعب، في مقابل حصول هذه الطبقة على مصالح مادية معينة من الحاكم الظالم. غير أن الإنسان في عالم متحضر ومنفتح لايمكن ان يتوقف عن سعيه لنظام عادل يأمن فيه على نفسه وأهله وماله ووطنه. وما دام هناك حالة من الظلم المستمر متمثلة في حرمان الإنسان من حقه في الحياة الحرة الكريمة وحقه في التعبير عن رأيه وطموحاته، فإن إجراءات الحاكم الترقيعية (توزيع هدايا ومكرمات، وخلق طبقة طفيلية نفعية، الخ) سرعان ما تنهار مع الزمن. إن العصر الحديث، تخطى النظام الملكي التقليدي الذي يعتبر المحكومين “اتباعا” ويطرح الفكر السياسي الحديث مفهوما مخالفا لذلك، وهو مفهوم “المواطنة”، بمعنى أن الإنسان له كرامة وحقوق أساسية غير قابلة للنقاش وان المحكوم ليس تابعا لملك ولا يخضع لصاحب سيادة مطلقة، وانما الحاكم تابع للشعب ونابع منه وخاضع لمحاسبة الشعب. ضوابط الشرعية السياسية  إن الملكية التقليدية تعني سيادة الملك، صاحب السلطة العليا، ومصدر القانون في البلاد. وهذا يتعارض مع مفهوم العصر حول شرعية السلطة السياسية. والسلطة السياسية التي لا تملك الشرعية فإنها تلجأ للقهر والقوة لفرض نفسها على الناس. الدولة الملكية الحديثة في الدول المتقدمة (مثل بريطانيا والدول الاسكندنافية وغيرها) تخضع الملك أو الملكة لقيود نوعية، بحيث إذا انتفت هذه القيود فإن النظام الملكي يفقد شرعيته السياسية ويتم اسقاطه مباشرة.  القيود والضوابط المفروضة على الملكيات الحديثة نابعة من مصادر أساسية. القيد والضابط الأول نابع من القانون الإلهي. وهذا القيد موجود حتى في الانظمة الغربية الحديثة رغم عدم اعتقاد بعض قادتها بأي دين. ويعني هذا القيد بأن العائلة المالكة او السلطة السياسية لا تخالف ما اتفق عليه الناس بأنه من ثوابت الدين. ولهذا فأن النظام الملكي البريطاني لايقبل بالتجديف ضد الكنيسة الانجيلية ويخصص مقاعد للقساوسة الانجيليين في مجلس اللوردات لمراعاة بعض الثوابت الدينية المتبقية. بالنسبة للمسلمين فإن من أهم الثوابت والضوابط التي تعلو فوق أي نظام سياسي هي أركان الإسلام، كالصلاة والصيام والحج والأذان والثوابت التي أصبحت جزء من الوجدان الشعبي الإسلامي . واي نظام سياسي (سواء كان اسلامي المنهج ام دون ذلك) يعرض شرعيته للخطر فيما لو تعرض للثوابت الدينية المغروسة في المجتمع. القيد والضابط الثاني المفروض على الملكيات والانظمة الجمهورية الحديثة نابع من ما يسمى بالقانون الطبيعي. والقانون الطبيعي يرد في التراث الإسلامي تحت عنوان “الفطرة” (فطرت الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله). والفطرة هي مجموعة الغرائز المركوزة في وجدان الإنسان، مثل السعي لحياة حرة كريمة، المحافظة على النفس والابتعاد عن الأذى، عدم القبول بالعبودية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، حق التملك، حق التعبير عن الرأي والاعتقاد، الخ. وعلى هذا الأساس لا يستطيع ملك في دولة متطورة أن يلغي أي من هذه الأمور لأنها تنبع من القانون الطبيعي، وهذا القانون فوق سيادة الملك، وفوق أيضا سيادة البرلمان. فلا يستطيع البرلمان البريطاني أو الأمريكي أو الفرنسي أن يشرع قوانين تحرم الإنسان من حق التعبير عن الرأي، أو تشرع استعباد الناس أو تشرع قوانين تحرم الإنسان من حقه في الدفاع عن نفسه أمام محكمة عادلة. وبما أن كرامة الإنسان مقدسة فإنه لا يحق للملك أو الحكومة او البرلمان اصدار أي قانون او القيام [أي اجر
اء يمس كرامة الإنسان. القيد والضابط الثالث نابع من المعاهدات الدولية والتشريعات التي توصلت لها الإنسانية خلال تجاربها العديدة في مختلف الأمكنة والأزمنة، وأصبحت هذه التشريعات ناموسا وعرفا دوليا إنسانيا. هذه التشريعات متضمنة في مواثيق ومعاهدات دولية مثل الاعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية منع التمييز العنصري، القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، الاعلان العالمي للدفاع عن المدافعين عن حقوق الانسان، اتفاقية منع التمييز ضد المرأة، اتفاقية حقوق الطفل، الحقوق العمالية، الخ. وهذه التشريعات تضمنتها الدساتير الحديثة كما تضمن دستور البحرين لعام 1973 عدد من مبادئها. وأهم تلك القيود تلك التي تتعلق بالحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، وسيادة الشعب من خلال برلمان منتخب، قادر على التشريع والمراقبة. هذا القيد الثالث يترجم القيود الأخرى ضمن نصوص يوافق عليها الشعب من خلال عملية حوار حقيقية يمارسها نواب الشعب المنتخبون. إن أي سلطة سياسية، سواء كانت سلطة ملك، أو سلطة برلمان، أو سلطة رئيس جمهورية، أو أي سلطة أخرى، تتجاوز القيود المطروحة أعلاه فإنها تتجاوز شرعيتها. بمعنى آخر، أنها تفقد شرعيتها السياسية كلما ازدادت في مخالفتها للظوابط التي تحدد الشرعية السياسية.

إن أي سلطة سياسية تعرض شرعيتها للخطر إذا تجاوزت فطرت الإنسان وانتهكت كرامته التي وهبها الله له، وإذا حرمت المواطن من حقه في التعبير عن رأيه وحقه في الدفاع عنه نفسه. ان الله لا يرضى لعباده الذل، ولا يرتضي للإنسان أن يذل نفسه أو يتنازل عن كرامته، لأن الله سبحانه وتعالى كرم ابن آدم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق