الأرشيف

دروس حول المفاهيم السياسية إعداد: منصور الجمري ـ أبريل 1998م (9) ما هي الحكومة؟

? الناس لا يعيشون منعزلين عن بعضهم الآخر، بل أنهم يتعاملون ويعتمدون على بعضهم الآخر. أكثرية الناس لا يزرعون ما يأكلون، لا ينسجون ما يلبسون، ولا يبنون المنازل التي يسكنون فيها. المنتجات التي يستخدمها الأفراد، والأنشطة التي يقومون بها والعلاقات والمعاملات، جمعيها شؤون معقدة تحتاج لترتيبات لكي يقوم كل فرد بأداء دور معين مقابل مردود معين. كيف تمنع السرقة، الاستعباد، الاعتداءات، المناوشات، الخلافات خلال هذه المعاملات؟ كيف يطمئن الفرد أن يسير في الطريق بأمان؟ كيف يمكن المحافظة على الأرواح والممتلكات؟ ? الحكومة هي الهيئة التي تمتلك القوة/الشرعية لفرض الترتيبات والأحكام والقوانين المتعلقة بهذه الجوانب من حياة الأفراد المشتركة. والحكومة بحاجة لشرعية من نوع ما لكي تتمكن من القيام بدورها لحفظ الأمن ورعاية المصالح المشتركة لكي يستطيع أفراد المجتمع من تسيير شؤون حياتهم. ? الحكومة والسلطة التي تصدر قوانين لا يتبعها أحد ليست حكومة وليست سلطة. المؤسسة الحاكمة التي تفرض قوانينها بالقوة على أفراد المجتمع ودون شرعية، تتحول من وضع الحكومة الشرعية وتقترب إلى وضع الجيش المحتل. ? الحكومة التي تقترب من وضعية جيش الاحتلال بحاجة لتوظيف قواتها بصورة مستمرة لفرض قوانينها على أفراد المجتمع. أما الحكومة الشرعية فهي تلك التي يعترف لها أفراد المجتمع بحقها في إصدار القرارات وتسيير شؤون المجتمع. ? في المجتمع، الحكومة هي أهم مؤسسة تؤثر على الأفراد. غير أن هناك مؤسسات أخرى لها أثرها في تسيير شؤون المجتمع، مثل الشركات، الجمعيات المهنية، المسجد، النقابات، الجمعيات الخيرية، النوادي، الجمعيات الطوعية، الجامعات، وغيرها لها دورها في تسيير شؤون الناس. والفرق بين هذه المؤسسات (او الحكومات المصغرة) والمؤسسة الحكومية، هي سعة المساحة المتاحة للتصرف. فالحكومة لها سلطة على الممتلكات وشراؤها، وإصدار القوانين التي تحكم طبيعة المعاملات بين الناس والقدرة على معاقبة المخالفين لقرارات الحكومة. الحكومة تستطيع أن تسجن، أن تطرد، أن تقتل عندما تتشدد في استخدام سلطاتها. ? الحكومة لها سلطة أعلى من “الحكومات المصغرة” المتفرقة المتواجدة في المؤسسات المختلفة داخل المجتمع (الشركات، الجمعيات، إلخ). وتستطيع الحكومة أن توجه تلك المؤسسات بالقوة، حتى ولو كانت تلك القوة مكلفة. وإذا قررت تلك المؤسسات مواجهة الحكومة العليا فإنها تدخل في صراع يهدف منه إيقاف الحكومة عند حدها أو اسقاطها. ? أشكال الحكومة: تتخذ الحكومة عدة أشكال تبعا لمصدر شرعيتها. فقد ورد في درس سابق بأن الصلاحية التي تعتمد عليها السلطة هي اساسا ثلاثة أنواع: صلاحية العادات والتقاليد، الصلاحية المستمدة من العقلانية، والصلاحية المستمدة من الهيبة التي تتوفر لبعض القادة. والحكومة هي حكومة، بمعنى أن لها سلطات واسعة لتسيير شؤون الناس. وحتى الحكومة المنتخبة فإنها تستخدم صلاحيات واسعة لتسيير شؤون الناس دون الرجوع إلى الناخبين في الأمور اليومية. فالحكومة التمثيلية تخضع للمحاسبة الانتخابية الدورية ولكنها تستطيع أن تمارس سلطاتها حسب ما تقرره من مصلحة عامة. ? لقد نظر الفلاسفة لأفضل شكل من أشكال الحكومات. والتنظير يعتمد على عوامل خاصة بالفكر وعوامل خاصة بالناحية العملية الإجرائية. على أن الزمان والمكان يلعبان دورهما أيضا في تحديد أفضل الأشكال الحكومية. ويمكن استقراء اربعة أشكال للحكومة. ? الحكومة الدينية الرسالية: وتعتمد الحكومة في هذه الحالة على انبياء ورسل وائمة الدين، الذين يستمدون صلاحياتهم من العقيدة الدينية. فالرسل عليهم السلام الذين أقاموا حكومة بين الناس، أقاموها على أساس المصدر الديني ـ الإلهي، الذي يعتبر المصدر الأساسي لصلاحيتهم. والهدف من الحكومة الدينية هي تنفيذ إرادة الله في الناس من خلال تطبيق أحكام الدين، كما عمل موسى (ع) والرسول الأعظم (ص). ? الحكومة الدينية الثيوقراطية: وهي عندما يسيطر رجال الدين بصورة مطلقة على الحكم، كما كان في أوروبا في القرون الوسطى، ويعتبرون أنفسهم المصدر الشرعي الوحيد لتسيير شؤون الناس.  ? الحكومة الملكية المطلقة: وهي التي يسيطر فيها أفراد عائلة معينة يتوارثون الحكم أبا عن جد. وقد كان الملوك يدّعون بأن حكمهم مستمد من “حق إلهي”. غير أن علماء السياسة يرون أن مصدر الشرعية لهذا النوع من الحكم الوراثي (والمطلق) هو عدم وجود معارضة أو مقاومة لتلك العائلة التي تطلب من الناس إطاعتها بصورة مطلقة. وهذا يعني القبول من خلال “عدم المقاومة” و”عدم المعارضة”. ولهذا فإن الحكومة الملكية المطلقة تسعى دائما للقضاء على أي مقاومة أو معارضة تحكمها لكي تبقى في الحكم، فليس المهم أن توالي الحكم أو تؤمن بأحقيته في الحكم، إنما المهم أن تبتعد عن المعارضة، وأن تخاف من الاشتراك في المعارضة. ? الحكومة الملكية الدستورية: وهي الحكومة التي تتزعمها عائلة مالكة، ولكنها تخضع لحدود من دستور متفق عليه مع الشعب. وفي الدول المتقدمة فإن العوائل المالكة ليس لها دون تنفيذي، وإنما تحتفظ بدور رمزي يمثل السيادة القائمة على حكم برلماني منتخب مباشرة بواسطة الشعب. بمعنى آخر فإن العائلة المالكة مرتبطة مع الشعب من خلال “عقد اجتماعي” بين الطرفين. ? الحكومة الدستورية القائمة على التمثيل الشعبي (الديمقراطي): وهذه الحكومة تتواجد في النظام الملكي الدستوري والنظام الجمهوري. والمقصود بالحكومة التمثيلية (Representative Government) هي أن أفراد الشعب ينتخبون ممثليهم للسلطة ا
لتنفيذية والسلطة التشريعية لممارسة دورهم في تسيير شؤون المجتمع وإصدار القوانين المستمدة من الدستور، أو العقد الاجتماعي المتفق عليه بين جميع الاطراف في المجتمع. والحكومة التمثيلية تخضع للانتخابات الدورية للتأكد من سيرها حسب الإرادة العامة للمجتمع. ? حكومة الحزب الواحد: وهي عندما تكون الحكومة نابعة من حزب اجتماعي واحد مرخص له دون غيره باعتباره أنه صاحب الفكر الأحق في إدارة شؤون المجتمع. وهذا ما كانت عليه أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، وحاليا الصين، وعدد من الدول الأخرى. ويؤمن الحزب الواحد بأنه يمارس الديمقراطية بصورة “مركزيةّ” وأن جميع افراد الشعب يستطيعون المشاركة في الحكم شريطة أن يدخلوا هذا الحزب وأن يعملوا داخل هذا الحزب فقط. ? الحكومة العسكرية: وهي الحكومة التي يسيطر عليها العسكر من خلال انقلاب أو من خلال إضعاف المؤسسات المدنية الأخرى. والعسكر عادة لا يتركون الحكم إلا بالقوة العسكرية التي تستطيع التغلب عليها. ? حكومة الفرد المستبد: وهذه هي الحكومة التي يقوم كيانها على فرد واحد مدعوم من قبل أجهزة الأمن والمخابرات والجيش ويتم فيها تصفية المعارضين دون هوادة. ? حكومة الخبراء: وهي الحكومة التي يسيطر عليها الفاهمين والخبراء والمتعلمين دون غيرهم. وهذا النوع يشبه ما دعا إليه أفلاطون في كتابه “الجمهورية”. غير أن حكومة الخبراء لا تصلح في العصر الحالي لتشكيل الحكومة الوطنية لأنها تحتاج لموافقة افراد المجتمع. ولكن “حكومة” الخبراء يعمل بها في غير “الحكومة الوطنية”. مثلا، الشركات التجارية والصناعية، والمؤسسات المتخصصة وغيرها، لا زالت يحكمها “الخبراء” والمتخصصين القائمين عليها. غير أن الشركات وغيرها من الجمعيات المتخصصة تخضع لحكم “الحكومة الوطنية” التي تشرع القوانين وتنفذ القرارات التي تخضع تلك المؤسسات المحكومة بالخبراء. ? الحكومة الارستقراطية: وهي الحكومة التي قد تبذأ كحكومة خبراء وفاهمين، وثم تتحول الى طبقة تحصل على ميزات (تحرم منها الطبقات الاخرى) كالرعاية الصحية المتطورة والتعليم المتفوق والاتصال الدائم والمباشر بمواقع القرار والسلطة. وهذا يوفر الفرصة لتداول السلطة في اطار طبقة مرفهة دون غيرها. ? هناك بطبيعة الحال أشكال مخلوطة. فقد تكون الحكومة “حكومة العائلة الواحدة” ويسيطر أيضا عليها فرد متسلط. كما أن جميع الحكومات التي تستمد صلاحياتها من المجتمع بحاجة لمبادئ سامية لتوجيه وإرشاد تلك الشرعية. فالحديث عن الصحيح والخطأ، والحلال والحرام، والأخلاقي وعدم الأخلاقي يخضع للقيم المتركزة في ذلك المجتمع. فالحكومات الغربية، مثلا، تعتمد (بصورة عامة) على القيم المسيحية لتحديد المفاهيم العامة للصح والخطأ.  ? فلسفة الحكم أساسا قائمة من أجل غايات معينة، يذكر منها تلك التي “تعلنها” الحكومات: (1) تنفيذ حكم الله. (2) حفظ الأمن بين الناس وإشاعة الطمأنينة. (3) رعاية مصالح المجتمع وحماية الأملاك الخاصة والعامة. (4) المحافظة على التراث والعادات والتقاليد. (5) تنمية الاقتصاد والإنتاج وخلق الثروة. (6) تحقيق المساواة بين الناس وإقامة العدل الاجتماعي. (7) حماية الدين والمقدسات الدينية. (8) حماية الأسرة والأعراض والأخلاق والآداب العامة. (9) حماية حقوق المواطنين وحريتهم وكرامتهم. (10) صد الهجوم الخارجي وحماية سيادة الدولة من الأطماع الأجنبية. (11) تحقيق الوحدة الوطنية أو الوفاق الوطني. (12) إنقاذ البلاد من الأزمات من خلال الحكم العرفي، أو أحكام الطوارئ. ? طبعا هناك أهداف فعلية غير معلنة تدور حول خدمة المصالح الأنانية لفرد معين أو حزب معين أو طبقة معينة أو عائلة معينة أو أي فئة أخرى ممسكة بزمام السلطة وتحاول الإبقاء على كرسي الحكم بأي وسيلة. ولكن لا توجد حكومة من الشجاعة بمكان أن تعلن عن هدفها إذا لم يكن ضمن الأهداف “المقبولة” المشار إليها.

? الحكومة لا تستطيع خدمة جميع الأهداف في آن واحد. فتحقيق المساواة يتضارب مع مصالح بعض أفراد المجتمع. والحكومة الناجحة هي التي تستطيع الموازنة والتوفيق بين الغايات المعلنة. ولهذا، فإن الحكومة الدستورية ترجع لمبادئ متفق عليها مع أفراد المجتمع لكي تحظى بالطاعة من خلال “حكم القانون”. والقانون لا بد أن يكون عادلا، بمعنى أن إصداره كان من أجل غاية عادلة ومقبولة، وأن تطبيقه يشمل جميع الأفراد دون استثناء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق