الأرشيف
التجنيس و الاستلحاق في تجربة الدولة العربية
التجنيس و الاستلحاق في تجربة الدولة العربية
السيد كامل الهاشمي
هناك طرفة معاصرة جداً ذات دلالات معبرة تقول أنه في أثناء الحرب الأنجلوأمريكية ضد العراق قال جندي بريطاني لمثيله الأمريكي: نحن إنما قاتلنا في العراق لأجل الشرف وأنتم إنما قاتلتم من أجل الأموال، فلم يكن من الأمريكي إلا أن أجابه بالقول: صحيح ما تقوله، لأن كل واحد إنما يبحث عما ينقصه.
قد يناسب إيراد هذه الطرفة لتفهم البواعث التي تقف وراء موقف كل طرف من الأطراف في مجتمعنا تجاه معضلة “التجنيس”، فالقضية التي أثيرت في وسائل الإعلام والمنابر الشعبية وأضحت مثار جدل واسع بين قوى شعبية ذات طابع جماهيري محض ليس له نصيب من شؤون الحكم والسلطة، وبين قوى متنفذة في السلطة، أو منتفعة ومرتبطة بها تمام الارتباط بحيث أضحت مصالح السلطة السياسية مصالحها، وما يضير السلطة يضيرها… أقول أن القضية التي أضحت مثار جدل بين هذه الأطراف يعتمد الموقف تجاهها بشكل طبيعي ومتوقع على طبيعة المصالح والمفاسد التي يراها كل طرف من الأطراف في عملية التجنيس وما يستتبعها من آثار في المستقبل على المستوى الديموغرافي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وحتى الأمني.
فالسلطة وقواها ترى في التجنيس استراتيجية يمكن من خلال اعتمادها تحقيق أسباب البقاء والاستمرار لها متنفذة في الحكم والسلطة من دون منازع ولا مغالب تخشى منه على نفسها ووجودها، وبعبارة دقيقة جداً: يمكننا القول أن السلطة تنظر إلى المجنسين بوصفهم “الجدار العازل” الذي يقوم بمهمة حفظ الأمن والاستقرار للسلطة من أيّة احتمالات مباغتة وغير متوقعة يقوم بها الطرف الشعبي في أوقات الأزمات وبروز الخلافات بين السلطة والجماهير وتحولها إلى صراعات وجود كما حصل بالضبط في النصف الثاني من تسعينات القرن المنصرم، وهي ليست بالفترة البعيدة التي يمكن أن تغيب عن الذاكرة بكل سهولة.
وبالمقابل فإن المجتمع الأهلي الغالبية العظمى منه تنظر إلى عملية التجنيس بخوف وريبة، إن لم تكن تجزم بأنها عملية تستهدف في نهاية المطاف تغيير الطبيعة الأولية لهذا المجتمع، والتي تتقوم بتركيبة سكانية عاشت أكثر من فترة حرجة وقلقة في علاقتها بالسلطة السياسية في البلد، وهي تخشى كثيراً على وضعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أن يستهدف بالإقصاء والتدمير عبر عملية التجنيس غير المدروسة والتي تفتقد الكثير من الحسابات الدقيقة التي تجعل منها عملية منتجة ومثمرة في نهاية المطاف بالنسبة إلى هذا المجتمع، ولاسيما أن المجتمع الأهلي في البحريني قد لاقى الكثير من الإهمال والإجحاف بحقوقه، والكثير من أفراده تناستهم الدولة في فترات سابقة من أيّة مشاريع تطويرية جادة وحقيقية مما عزّز حالة فقدان الثقة بين الغالبية العظمى من أفراد المجتمع الأهلي والسلطة السياسية.
وانطلاقاً من ذلك يمكننا القول أن الدولة ضمن هواجسها الماضوية والتاريخية تبحث في التجنيس عما تفتقده في علاقتها بالمجتمع الأهلي، وهو أساساً الأمن، كما أن المجتمع الأهلي يخشى الغالبية العظمى من أفراده من التجنيس لأنهم يرون فيه وسيلة لتدمير وإضعاف ما تبقى لديهم من قدرات في الضغط على الدولة والسلطة السياسية القائمة لتحقيق ما يطلبونه من حقوق ومتطلبات يرونها مشروعة وضرورية.
وما يجعل هواجس المجتمع الأهلي مبررة ومعقولة هو أن الدولة والسلطة في تجربتنا الإسلامية، والعربية بالذات لها ماض سيء جداً مع قضية الاستلحاق والتي تعتبر الصورة المصغرة من عملية التجنيس التي تجري اليوم في بعض بلداننا العربية.
ففي التاريخ الإسلامي نجد أن أول عملية استلحاق أجرتها السلطة السياسية في تاريخ الإسلام السياسي قد تمت خارج إطار الشرعية الدينية والعرفية المقرة بين الدولة والمجتمع، وفوق ذلك قد اقترنت هذه العملية بالخروج من الإطار الدستوري لدولة الخلافة الراشدة عند الغالبية العظمى من المسلمين، وتحول الدولة إلى ملك عضوض على يد أول خليفة من البيت الأموي وهو معاوية بن أبي سفيان، فهذا الخليفة الأموي الأول لم يكتف بإلغاء الخلافة عن الرسول الأكرم (ص) بوصفها منصباً دينياً وتحويلها إلى منصب دنيوي بحت، بل ألغى حتى الأصول المتعارفة بين العرب في حفظ أنسابهم فاستلحق رجلاً لا يمتّ إليه بصلة نسبية مشروعة به معتبراً أن زياد بن أبيه هو زياد بن سفيان وأنه أخ له.
وبطبيعة الحال تتجاوز عملية الإلحاق هذه مسألة الرغبة في حل الإشكالية الشخصية التي كان يعاني منها هذا الرجل المعروف في تاريخ الإسلام، والذي تحدثنا كتب التاريخ والسيرة عنه بشكل ينفي عن القضية أيّة طابع خلافي، فمن المقرر بين المؤرخين وأرباب السيرة أن زياد بن أبيه لم يكن له أب معروف، وفي ذلك يقول المحشي على كتاب المجموع لمحي الدين النووي، ج81، ص90 مانصه: (زياد بن أبيه استلحقه معاوية بأبي سفيان بن حرب فدعى زياد بن أبي سفيان، وقد كانت أمهما – هو وأخوه أبو بكرة – سمية، جارية مهداة من النعمان بن المنذر ملك الحيرة إلى الطبيب العربي الحارث بن كلدة، وكان أبو سفيان يستريح عندها لدى مروره بالطائف ويقال انه سفح بها فأعقبت زيادا وأبو سفيان هو أبو أم المؤمنين أم حبيبه، وادعاه زياد النسب يجعله أخا لام حبيبة، الأمر الذي تستنكره حتى لا يقوى على مواجهتها فيدخل بيتها بهذا النسب الزائف).
وهذا الهامش جاء في مقام إيضاح فرع فقهي أورده صاحب المجموع في نفس الصفحة قال فيه: ((فرع) إذا كلم غير المحلوف عليه بقصد إسماع المحلوف عليه فإنه يحنث. وبهذا قال أحمد، لأنه قد أراد تكليمه، ويرد عليه ما روينا عن أبى بكرة رضى الله عنه أنه كان قد حلف ألا يكلم أخاه زيادا، فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكرة إلى قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره ثم قال: يا أبن أخي إن أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النسب الذي أدعاه – وهو يعلم أنه ليس بصحيح – وأن هذا لا يحل له، ثم قام فخرج وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما).
وأما السيد البروجردي من فقهاء الشيعة في القرن الرابع عشر الهجري يقول في كتابه المدرسي المشهور “القواعد الفقهية” في الجزء الرابع منه، ص24-25 متحدثاً عن مسألة إلحاق الابن بأي الرجلين اللذين وقعا على جارية واحدة ما نصه: (ورواية سعيد الأعرج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الولد ؟ قال: للذي عنده الجارية، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: الولد للفراش وللعاهر الحجر). ولا ينبغي البحث عن صدور هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لان صدوره قطعي. وذلك من جهة أن إلحاق معاوية زياد بن سمية بأبي سفيان صار سببا لاشتهار هذا الحديث بين المحدثين والمؤرخين، إذ هذه القضية العجيبة التي كانت خلاف نص رسول الله صلى الله عليه وآله وقعت في زمان وجود جمع كثير من الصحابة الكرام، وأنكروا كلهم هذا الأمر على معاوية لما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وآله هذا النص الصريح، ولذلك اشتهر ونقله المحدثون وأغلب المؤرخين، وذكروا له المطاعن الأربعة المعروفة عند جميع المسلمين: بغيه على أمير المؤمنين عليه السلام، وقتله حجر بن عدي الذي كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلحاق زياد، ونصبه يزيد ابنه خليفة من بعده وأميرا على المسلمين.. ولما ذكرنا فمدعى القطع بصدور هذا الحديث ليس بمجازف، وعلى كل حال ثبوته وصدوره من المسلمات بين المسلمين).
ومما يفصح عن كون القضية في غاية الاشتهار ما كتبه الإمام علي بن أبي طالب (ع) من كتاب إلى زياد بن أبيه نفسه حينما سمع بذلك وبلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه فخاطبه بالقول: (وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك ويستفل غربك، فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته ويستلب غرته وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر فلتة من حديث النفس ونزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها نسب ولا يستحق بها إرث، والمتعلق بها كالواغل المدفع والنوط المذبذب).
ويضيف شارح النهج ابن أبي الحديد قائلاً: (فلما قرأ زياد الكتاب قال شهد بها ورب الكعبة، ولم يزل في نفسه حتى ادعاه معاوية).
وربما اعتبر البعض من شخصيات المسلمين في ذاك الوقت ما جرى من استلحاق معاوية لزياد بن أبيه مظهراً صارخاً من مظاهر الذل والهوان التي لحقت بالمسلمين، فقد روى الشيخ الصدوق في كتابه “الخصال” ص 181 عن أبي مالك الجنبي عن عمر بن بشر الهمداني قال: (قلت لأبي إسحاق: متى ذل الناس قال: حين قتل الحسين بن علي عليهما السلام، وادعي زياد، وقتل حجر بن عدي).
وفي مقام التعريف بأصل زياد الذي لا أصل له يذكر محشي كتاب الخصال المذكور في مجال توضيح هذا الحديث المتقدم: (قوله “وادعى زياد” على بناء المجهول أي ادعى معاوية انه أخ له. واعلم أن زيادا حيث كان في نسبه خمول يقال له زياد بن أمه تارة وتارة زياد بن أبيه وتارة زياد بن عبيد وتارة زياد بن سمية وهى أمه وكانت تحت عبيد، لكن لما استلحق قال له أكثر الناس زياد بن أبى سفيان، والوجه في استلحاقه بعد إخبار أبى سفيان بأنه أتى أمه في الجاهلية سفاحا و أنه منه، أن معاوية لما عرف ولايته من قبل أمير المؤمنين عليه السلام وحمايته عنه عليه السلام وكفايته في أمره خاف جانبه وصعوبة ناحيته فكتب إليه مرة بعد مرة بالوعد والوعيد والمواصلة و الملاطفة حتى خدعه بالاستلحاق وأماله إلى نفسه ففعل ما فعل، نقل ابن أبى الحديد عن المدايني انه لما أراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه الشام جمع الناس وصعد المنبر وأصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التى تحت مرقاته وحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس أنى قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد فمن كان عنده شهادة فليقم بها، فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبى سفيان وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته، فقام أبو مريم السلولى وكان خمارا في الجاهلية فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف فأتاني فاشتريت له لحما وخمرا وطعاما فلما أكل قال: يا أبا مريم أصب لي بغيا، فخرجت فأتيت سمية فقلت لها إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه وجوده وقد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك ؟ فقالت نعم يجئ الآن عبيد بغنمه وكان راعيا فإذا تعشى ووضع رأسه أتيته فرجعت إلى أبى سفيان فأعلمته فلم تلبث أن جاءت تجر ذيلها فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت فقلت له لما انصرفت: كيف رأيت صاحبتك ؟ قال: خير صاحبة لولا ذفر في أبطيها (يعنى نتن) فقال زياد من فوق المنبر: يا أبا مريم لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك، فلما انقضى كلام معاوية و مناشدته قام زياد وأنصت الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن معاوية والشهود قد قالوا ما سمعتم ولست أدرى حق هذا من باطله وهو والشهود أعلم بما قالوا، وإنما عبيد أب مبرور ووالد مشكور، ثم نزل).
والمفارقة الأهم التي تبرر هذه المساوقة والموازنة التي نقيمها بين الاستلحاق والتجنيس بوصفهما آلية واحدة من حيث النتيجة تستخدمهما السلطة السياسية قديماً وحديثاً لعقد ارتباط بينها وبين عناصر دخيلة وملحقة تستخدم لغاية تصفية الخصوم السياسيين وتثبيت رغبات الهيمنة لدى السلطة السياسية على المجتمع الأهلي، أن التجنيس حديثاً كما الاستلحاق قديماً تشرعهما السلطة السياسية بشكل أساسي من أجل هواجس أمنية ونفسية لا تستطيع تجاوزها في علاقتها بالمجتمع الأهلي، وهذا ما يجعل المجنسين والمستلحقين يستخدمون بشكل أساسي لاستجلاب الأمن الذي يفتقده الساسة في ارتباطهم بأفراد وجماعات المجتمع الأهلي، ومن الطبيعي أن تكون التصفية الجسدية والتنكيل بخصوم السلطة على رأس أولويات واهتمامات المجنسين والمستلحقين لإثبات ولاءهم المطلق للسلطة التي جلبتهم ورعتهم وجعلتهم مواطنين من الدرجة الأولى، وفي هذا السياق يمكننا تفهم مبادرة زياد بن أبيه لتصفية خصوم السلطة الأموية، وأولهم كان حجر بن عدي الصحابي المشهور من أتباع علي بن أبي طالب (ع)، وهو كما في هامش تحف العقول لابن شعبة الحراني ص 121: (من قبيلة كندة وكان رحمه الله من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام بل من خواصه وكان مقيما بالكوفة إلى زمن زياد بن أبيه فأخذه زياد وحبسه وأصحابه ثم بعث بهم إلى معاوية بن أي سفيان حتى انتهوا إلى مرج عذراء [قرية بغوطة دمشق على أميال منها] وحبسوا به وكانوا أربعة عشر رجلا فجاء رسل معاوية إليهم فقال لهم: إنا قد امرنا أن نعرض عليكم البراءة من على واللعن له فان فعلتم هذا تركناكم وإن أبيتم قتلناكم وأمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت بشهادة أهل مصركم عليكم غير أنه عفى عن ذلك فابرؤوا من هذا الرجل يخل سبيلكم، قالوا: لسنا فاعلين، فأمروا بقيودهم فحلت وأتي بأكفانهم فقاموا الليل كله يصلون فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية: يا هؤلاء قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة وأحسنتم الدعاء فأخبرونا ما قولكم في عثمان ؟ قالوا: هو أول من جار في الحكم وعمل بغير الحق، فقالوا: أمير المؤمنين أعرف بكم، ثم قاموا إليهم وقالوا: تبرؤون من هذا الرجل قالوا: بل نتولاه فأخذ كل رجل منهم رجلا يقتله فقال: لهم حجر: دعوني أصلى ركعتين فاني والله ما توضأت قط إلا صليت فقالوا له: صل فصلى ثم انصرف فقال: والله ما صليت صلاة قط أقصر منها ولولا أن يروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن استكثر منها فمشى إليه هدبة بن الفياض الأعور بالسيف فأرعدت فرائصه فقال: كلا زعمت أنك لا تجزع من الموت فانا ندعوك فابرأ من صاحبك فقال: ما لي لا أجزع وأنا أرى قبرا محفورا وكفنا منشورا وسيفا مشهورا وإني والله إن جزعت لا أقول ما يسخط الرب، ثم قتله رضوان الله عليه وقد عظم قتله على قلوب المسلمين وعابوا معاوية على ذلك).
وبطبيعة الحال ليست هذه كل جرائم زياد بن أبيه أول مستلحق مجنس تجنيساً سياسياً صرفاً من قبل السلطة السياسية، بل هي تطول وتكثر على العد، ولكننا أردنا فحسب أن نشير إلى طبيعة التعامل التي تحكم العلاقة بين أمثال هؤلاء المستلحقين وعامة أفراد وقطاعات المجتمع الأهلي، وهذا ما يبرر أن يتوفر المجتمع الأهلي على حساسية مفرطة في التعامل مع هذا الملف الشائك والخطير.
وما ينبغي أن يعطي لدعاة التجنيس حديثاً والاستلحاق قديماً مزيداً من التوجس والخوف تجاه هاتين الممارستين (اللامشروعتين) ويدفعهما لمزيد من التفكير في الأمر، هو أن الناظر في العواقب التي انتهت إليها الممارستان تاريخياً يكتشف أن التجنيس والاستلحاق لم يكونا أبداً من حيث عواقبهما في صالح السلطة حتى، فضلاً عن المجتمع الأهلي، فالضرر الذي يلحقه المجنسون تجنيساً سياسياً بأداء السلطة السياسية وعلاقتها بالمجتمع الأهلي يتجاوز أهمية المصالح التي يمكن أن تعود من ورائهم، فهم في نهاية المطاف ليسوا سوى مرتزقة جلبتهم الدولة والسلطة السياسية في ظرف متوتر وحرج بينها وبين الأمة، وأرادت أن تستقوي من خلالهم على الأمة، ولذلك غالباً ما يشكل المجنسون في التجارب السياسية القلقة والمضطربة مجتمعاً وظيفياً خالصاً، بمعنى أن المجنسين يتحولون إلى موظفين لدى الدولة يقبضون أجراً محدداً إزاء ما يقومون به من دور مهم في قمع المجتمع الأهلي.
وهذا لا يعني أننا نستصدر حكما كلياً وعاماً على كل المجنسين في مختلف التجارب السياسية في العالم، لأننا ندرك أن عمليات التجنيس تقوم بها الكثير من دول العالم، ولكن ما يميز ويفرق بين تجنيسنا للأجانب وتجنيسهم أن عملية التجنيس تجري عند الآخرين وفق منظور مدروس يستهدف تحقيق تطورات سريعة وضرورية في متن التجربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلد، من دون أن يقترن ذلك برغبات في قمع تطلعات المجتمع الأهلي، والذي لا يشعر المسؤول السياسي في تلك البلدان أصلاً بأنه يقف في مواجهته وعلى طرف النقيض من تطلعاته ورغباته، فلا تنطوي عملية التجنيس على أيّة رغبات لإقصاء وإزواء القوى الفاعلة في المجتمع، ولكن الأمر بخلاف ذلك في مهام التجنيس في عالمنا العربي، إذ هي لا تنطلق من رغبات التطوير والتحديث التي يرى الحاكم ضرورة إنجازها والمسارعة فيها، وإنما تنطلق من رغبات التعسف في استخدام القوة والاستئثار بالسلطة بكل شؤونها ومراتبها، مما يعزز الحاجة لمزيد من قوى الأمن التي تفتقد في داخل البلد، نتيجة افتقاد الثقة في قدرة المواطن على حفظ أمن الحاكم السياسي، فيضطر الحاكم حينئذ لحفظ منظومته السياسية والسلطوية للاستنجاد بالأجانب الذين يعتقد أن بإمكانهم حفظ استقراره وأمنه، وهكذا تتم مهام التجنيس لحفظ مصالح السلطة واستمرار وجودها، حتى لو كان ذلك على حساب المجتمع الأهلي وهويته وثقافته وأعرافه وتقاليده.
وفي ظل ذلك يمكننا القول: أن عملية التجنيس في تجاربنا السياسية العربية قديمها وحديثها غالباً ما تعكس توتراً في العلاقات الثنائية بين السلطة والأمة، وعلاج هذا التوتر لا يكون عبر إمعان السلطة في عملية التجنيس وزيادة معدلاته، وإنما في محاولة تفهم الأسباب الحقيقة التي تقف وراء توتر العلاقة بين السلطة والأمة، والسعي الجاد لحل إشكاليات الواقع من دون محاولة غض الطرف عنها، ولا تجاوزها، ولا تكميم أفواه الناطقين بها، وتكبيل أيدي المتحركين لرفعها، إذ الحل الوحيد لكل مشكلة يواجهها الإنسان هو في التعرف عليها ومعالجة أسبابها من دون تضخيم ومن دون تهاون.
كامل الهاشمي
جدحفص – البحرين
7/9/2003