Archive
Bahrain Freedom Movement
ربما انهت وفاة اوغستو بينوشيه، ديكتاتور تشيلي السابق، الجدل المتواصل حول محاكمته بعد اتهامه بارتكاب جرائم ضد الانسانية، ولكن الجهود الدولية لمنع الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان سوف تستمر بعد ان انتشر الوعي لدى الشعوب بضرورة محاصرة مرتكبي تلك الجرائم وغيرها.
لقد استطاع بينوشيه تفادي المثول امام القضاء العادل لمواجهة التهم التي وجهت اليه بارتكاب جرائم التعذيب خلال حكمه الذي امتد سبعة عشر عاما، بحجة المرض، تارة بتلاشي قدراته العقلية واخرى بضعفه الجسدي، وقبلها متذرعا بحصانته من القضاء بسبب منصب الرئاسة الذي تولاه. وتعتبر قضية الديكتاتور المقيت شهادة قبيحة على السياسة الخارجية الامريكية التي دعمت الانظمة الديكتاتورية وغضت الطرف عن انتهاكاتها الخطيرة لحقوق الانسان على اوسع نطاق. وكان موقف واشنطن من شاه ايران في السبعينات وجها قبيحا آخر لتلك السياسة. ولكن غياب بينوشيه لا يعني تغير ذلك الوجه القبيح، لان واشنطن اليوم تمارس انتهاكات لا تقل خطرا عما ارتكبه بينوشيه وشاه ايران. ويكفي للتدليل على بشاعة تلك السياسة ان معتقل جوانتنامو، السيء الصيت، لا يحتوي الا على نسبة صغيرة من مجموع المحتجزين في المعتقلات السرية الامريكية في بلدان عديدة منها افغانستان والعراق وباكستان والمانيا. وتعتبر سياسة “ريندشن Rendition” التي تم بموجبها نقل السجناء الذين تحتفظ بهم الولايات المتحدة خارج اراضيها، من سجن لآخر في رحلات جوية سرية، من أقبح وجوه عولمة الشر التي تفوقت فيها واشنطن على بقية دول العالم، والتي تورطت دول اوروبية عديدة بدعمها خصوصا المانيا وبريطانيا. ولا شك ان ادارة الرئيس جورج بوش قد تنفست ارتياحا بخبر وفاة بينوشيه، على امل ان تغلق وفاته ملفه الاسود في مجال حقوق الانسان، ومعه الدور الامريكي في تشجيعه على ما قام به في 1973 من انقلاب دموي ضد حكومة سلفادور الليندي المنتخبة بطريقة ديمقراطية. ذلك الانقلاب الذي تزعمه بينوشيه كان فاقعا ومشينا، ويعتبر امتدادا لسياسات التدخل الامريكي المباشر في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، كما فعلت عندما مولت أردشير زاهدي في 1953 للانقلاب على حكومة الزعيم الايراني الوطني، محمد مصدق، واعادت محمد رضا بهلوي الى الحكم. لقد ارتكب بينوشيه وعصابته من الجرائم بحق الشعب التشيلي الشيء الكثير، ابتداء بقتل الرئيس المنتخب، الليندي (حسب بعض الروايات) في القصر الجمهوري، مرورا بخطف الآلاف من المعارضين وقتلهم على ايدي فرق الموت الوحشية، وصولا الى اعدام زعماء المعارضة وآخرهم ثلاثة من الشيوعيين الذين اعدموا بعد محاولة انقلاب لم تنجح ضد بينوشيه.
في نوفمبر من العام 1970 وصل الزعيم الإشتراكي سلفادور ألليندي إلى رئاسة تشيلي في انتخابات حرة و مباشرة لم تعجب الولايات المتحدة، يومها كانت أمريكا اللاتينية كانت تمور بالإشتراكية، و العداء للرأسمالية، حتى ان الكثير من القسسة تركوا وظائفهم الكنسية في معقل الكاثوليكية واتجهوا للإشتراك في الثورة، و التحريض ضد فساد الحكام الرأسماليين، أصدقاء الولايات المتحدة، و ذلك في فترة المد الاشتراكي العالمي، و الحرب الباردة. وانتشر آنذاك ما سمي “لاهوت التحرير” اي تدخل الكهنة في الشؤون السياسية، الأمر الذي أحدث شرخا بين روما والكنائس في تلك البلدان. من جانبه اتخذ الليندي الذي عرف ب “طبيب الفقراء” سياسات شجاعة ضربت مصالح الإمبراطورية الأمريكية في تشيلي بوقوفها بجانب الفقراء والمحرومين، و ميولها الإشتراكية الواضحة.. واشنطن، من جانبها، اعتبرت أن سلفادور ألليندي خطر كبير يتهدد مصالحها. وحيث انها لم تستطع الطعن و التشكيك في شرعيته كحاكم لأنه فاز في الانتخابات بطريقة ديمقراطية، فقد قررت الإمبراطورية القضاء على أحلام الشعب التشيلي، و الشعوب الفقيرة في العالم، و كان رجلها المختار لهذا هو الجنرال أوغستو بينوشيه قائد الجيش الذي استولى على السلطة بإيعاز أمريكي في الحادي عشر من سبتمبر عام 1973، و حاصر القصر الرئاسي بدباباته مطالباً سلفادور ألليندي بالإستسلام و الهروب، لكن ألليندي رفض، و ارتدى الوشاح الرئاسي الذي ميز رؤساء تشيلي طوال قرنين من الزمان، ليسقط قتيلا في القصر الرئاسي رافضاً التخلي عن حقه الشرعي. وشهدت تشيلي في اثر ذلك حقبة سوداء امتدت سبعة عشر عاما، عانى العباد والبلاد خلالها أقسى الظروف تحت الحكم العسكري لبينوشيه.
ثمة ظاهرة مهمة ارتبطت بشكل وثيق بقضية اوغستو بينوشيه وهي عالمية الاختصاص القضائي، الذي يعتمد، في الأحوال العادية، على الصلة بين الدولة التي ترفع الدعوى وبين الجريمة نفسها، وهي صلة إقليمية في العادة؛ أما في حالة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية فيكفي أن تكون هذه الصلة “أننا جميعاً من أبناء البشر”. والسبب الواقعي الرئيسي لنص القانون الدولي على عالمية الاختصاص القضائي هو لضمان عدم إتاحة “الملجأ الآمن” للمسؤولين عن ارتكاب أخطر الجرائم. وكانت جريمة القرصنة هي الجريمة “العالمية” المعهودة في سالف الأزمان، ثم أضيفت إليها تجارة الرقيق. ولكن هذين النوعين من الجرائم كانا يرتكبان عبر حدود الدول أو في عرض البحار. وقد ازداد عدد الجرائم التي تتطلب عالمية الاختصاص القضائي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطالت القائمة فأصبحت تتضمن كثيراً من الفظائع التي ترتكب داخل الحدود الوطنية، مثل جريمة الإبادة الجماعية، والتعذيب، والفصل العنصري، وغيرها من “الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية”. وقد نظرت إحدى محاكم الولايات المتحدة قضية هامة أصبحت من معالم تاريخ القضاء، وهي قضية فيلارتيغا التي رفعت فيها أسرة شخص من باراغواي كان من ضحايا التعذيب ثم انتقل للإقامة في الولايات المتحدة، دعوى مدنية ضد من قام بتعذيبه بعد أن انتقل هو أيضاً إلى الولايات المتحدة؛ وقالت المحكمة في حكمها: “لقد أصبح مرتكب التعذيب، مثل القرصان وتاجر الرقيق من قبله، عدواً للبشرية بأسرها”. منظمات حقوق الانسان الدولية وجدت فرصة ذهبية لا تعوض لفحص مدى قوة الارادة الدولية لعولمة الاختصاص القضائي ومواجهة الجرائم ضد الانسانية، عندما قرر بينوشيه في 1998 السفر الى بريطانيا للعلاج. فتحركوا ضاغطين على حكومات الدول الغربية لتفعيل مقولات حقوق الانسان والتصدي لها. اعتقل بينوشيه بناء على طلب من قاض اسباني كان قد نظر في دعاوى عديدة رفعت ضد ا لديكتاتور على ايدي نشطاء حقوق الانسان والمحامين والقضاة الشرفاء. الأمر الذي ساهم في تقوية القضية الدولية ضد بينوشيه ثقافة التوثيق التي مارسها النشطاء منذ الايام الاولى لحكمه، اذ عكفوا على تسجيل حالات الاعتقال والتعذيب والقتل والخطف على نطاق واسع، وما ان توفرت الفرصة لتدويل قضية ضحاياهم حتى كانت الملفات المطلوبة متوفرة لديهم بأدلتها الدامغة وشهودها الشجعان. وفي 1996 رفعوا قضايا عديدة ضده في عدد من المحاكم الاوروبية، ومنها أسبانيا. فجاء اعتقاله في بريطانيا ليعيد فتح ملف حقوق الانسان على نطاق دولي، وليسلط الاضواء على مواقف الدول وسياساتها. غير ان ثمة قوى سياسية في الغرب لم تكن متحمسة على الاطلاق لهذه البادرة التي من شأنها ان تؤثر على اصدقائها في العالم الثالث، فتحركت لاجهاض اية محاولة لمحاكمة الطاغية، بحجج واهية ادت في النهاية الى عودته لبلاده بدون محاكمة. وهناك عاد التحرك الشعبي من جديد لمحاكمته، ولكن ذلك التحرك واجه عقبات كثيرة اعاقته وجمدت القضية حتى وفاة بينوشيه في العاشر من ديسمبر. ومن الصدف العجيبة ان تكون وفاته في اليوم العالمي لحقوق الانسان، الذي يفترض ان يحظى باهتمام العالم لتكريس ثقافة حقوق الانسان وعولمة الاختصاص القضائي بشأنها.
رحيل بينوشيه يعتبر انفراجا نسبيا في الازمة الصامتة بين القوى الداعمة لأنظمة الاستبداد في العالم الثالث (وتمثل الانظمة العربية أسوأ مصاديق لها) ونشطاء حقوق الانسان المضطهدين في بلدانهم بسبب مواقفهم وافكارهم. العالم العربي اليوم يعاني من تداع خطير لحقوق الانسان، سواء في مجال التعذيب المتواصل للمعتقلين السياسيين، ام في الانتهاكات الواسعة للحقوق السياسية والمدنية. وما يضاعف المشكلة ان الانظمة العربية اصبحت تعتمد على خبراء في قضايا حقوق الانسان ليس بهدف الحد من انتهاكها، ولكن من اجل التحايل على الجهات الدولية التي توجه انتقادات مستمرة لتلك الانظمة بسبب تلك الانتهاكات. هؤلاء الخبراء اصبحوا يوجهون الخطاب الرسمي للمنظمات الدولية، باللغة التي تفهمها، ويسعون لاسكاتها اما بالوعود او شراء المواقف. وثمة معلومات بان الاموال النفطية استطاعت تحييد بعض المنظمات الحقوقية باختراق طبقاتها الادارية وتقديم عطايا مالية لبعض موظفيها. يضاف الى ذلك ان السياسة الامريكية رفضت حتى الآن التصديق بشكل جاد على معاهدات منع التعذيب، ورفض المحكمة الجنائية الدولية واضطراب سياستها الخارجية في ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الانسان، الامر الذي يضعف مساعي حماية حقوق الانسان من انتهاكات الانظمة الشريرة.
في الاسابيع الاخيرة صدر تقرير عن مجموعة رقابية بريطانية اسمها “سجناء القفص” يقول ان السجناء بقاعدة جوانتنامو ليسوا سوى نسبة صغيرة من عدد المخفيين في سجون شتى تعمل خارج القانون. ويقول التقرير انه منذ يناير 2002 عندما نقل عدد من المشتبه بهم من افغانستان الى جوانتنامو، تم اعتقال حوالي 14 الف شخص واخفاؤهم في ثكنات عسكرية وحفر في الارض ومنازل خاصة وفنادق ومدارس، وان الجهات التي تقوم بالاعتقال تتداخل في مراتبها القيادية، ومن بينها وزارة الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) وأجهزة الامن الوطني في عدد من البلدان مثل بريطانيا. ويعتبر التقرير تسجيلا توثيقيا لشهادات سجناء اعتقلهم الامريكيون في مراكز اعتقال عديدة في بلدان كثيرة ومحامين دوليين يدافعون عن سجناء جوانتنامو. ويقول المحامي كلايف ستافورد، من منظمة “ريبريف” ان ثلاثة ارباع معتقلي جوانتنامو لم يلتقوا بمحامين، وانهم لا يمثلون سوى 4 بالمائة من مجموع المعتقلين في اطار الحرب على الارهاب. هذه الشهادة تمثل مدى اخفاق الجهات الحقوقية الدولية في اختراق العالم السري للاستخبارات الا مريكية التي تهيمن على الاوضاع في عدد من البلدان، وتتجاوز القيم الدولية والثوابت القانونية حول تجريم الانتهاكات. من هنا ففي الوقت الذي يشعر اهل تشيلي بقدر من الارتياح لرحيل مهندس التعذيب في بلدهم، فان ما يقلق نشطاء حقوق الانسان عموما استمرار توفر الحصانة الرسمية من الانظمة الاستبدادية للمعذبين الذين يشعرون بتلك الحماية من قبل حكامهم، ولا يهمهم ما يقوله النشطاء والجهات الدولية الداعمة لنضالات الشعوب. ويمكن القول ان الدعم الدولي للجهات الحقوقية الدولية يشهد تراجعا نسبيا، اذ اصبحت تلك الجهات غير قادرة على التصدي للطلبات المتزايدة للتدخل لحماية المعارضين في اقبية السجون، والنشطاء الذين يتعرضون للسجن والتنكيل عندما يتجاوزون الحدود الرسمية في تعاطيهم مع الانتهاكات الواسعة لحقوق الانسان في بلدانهم. وبالرغم من الوعي الذي انتشر في السنوات الاخيرة بين شعوب بعض البلدان العربية حول حقوق الانسان، ما تزال حالة الخوف منتشرة في اوساط النشطاء في بلدان مثل الاردن والسعودية ومصر والبحرين. فاعتقال الناشطين السياسيين والحقوقيين في هذه البلدان متواصلة، ومعها سياسات هذه الدول الهادفة لتضليل الرأي العام حول القضايا السياسية والحقوقية. والاخطر من ذلك انه بدلا من التصديق على المعاهدات الدولية حول حقوق الانسان والحقوق السياسية والمدنية، فانها تطرح تشريعات تناقض تلك المعاهدات، وتبذل اموالا هائلة للترويج لها كتشريعات “اكثر تطورا” من التشريعات الدولية. لقد انعشت قضية اعتقال بينوشيه قبل بضعة اعوام آمال النشطاء والسياسيين، وأدخلت في قلوبهم شعورا مؤقتا بالانتصار، ولكنه كان انجازا محدودا ومؤقتا، ما لبثت القوى المعادية لحقوق الانسان وقضايا الشعوب، ان انقلبت عليه وأفشلته. ومرة اخرى تبقى الولايات المتحدة الامريكية وسياساتها خصوصا في جوانب حقوق الانسان عقبة كأداء امام اي تطوير للمشروع الحقوقي الدولي، فرحيل بينوشيه خفف الضغط على هذه الجهات ولكنه لم يحل جوهر قضية حقوق الانسان كقضية لا تنفصل عن الاستحقاقات السياسية والاصلاح في هذه البلدان. انه تداخل غريب عجيب، يصعب تصور طرق الخروج منه بشكل يحافظ على جوهره ولا يخضعه للمساومات والتنازلات.