Archive

Bahrain Freedom Movement

المظاهر المهرجانية التي تسعى الحكومة البحرينية لاضفائها على الانتخابات المزمعة هذا الاسبوع لانتخاب نصف اعضاء مجلس الشورى توحي للكثيرين باستقرار الاوضاع السياسية والامنية، غير ان القراءة الفاحصة للوضع في عمومه، سواء من خلال استنطاق الرموز المعارضة ام متابعة ما يكتب في المنتديات الالكترونية الخارجة عن سلطة الحكومة، تؤكد شعورا عاما بالاحباط الذي يصل في بضع الحالات الى اليأس من قدرة الحكم على توفير مسلتزمات الممارسة الديمقراطية خصوصا في مجال حرية التعبير، او الشراكة السياسية.

 وقد أثبتت تجربة  السنوات الاربع الماضية من العمل ضمن أجهزة الحكم، ومنها مجلس الشورى (نصف المنتخب) عددا من الحقائق: اولها ان التشريع من اختصاص الحاكم واجهزته، وليس اعضاء ذلك المجلس، اذ لم يصدروا تشريعا واحدا خارج ما تريده العائلة الحاكمة، ولم يستطيعوا اجهاض قانون واحد طرحته امامهم. ثانيها: ان السلطة سهلت ممارسة الفساد والوساطة والمحسوبية، ولم تسمح بحكم القانون، ثالثها: ان القضاء استمر مرتبطا بالعائلة الحاكمة يصدر احكام السجن بحق المعارضين بقرارات من البلاط الملكي، ويرفض النظر في القضايا المشروعة التي يرفعها المواطنون ومنها المرتبطة بمرتكبي جرائم التعذيب. رابعها: ان الوضع السياسي واجواء الحرية تراجعت كثيرا في الفترة الماضية، اذ فرضت السلطة قوانين عديدة لا تنسجم مع قيم الحرية والديمقراطية، أهمها قانون الجمعيات الذي يلزم مؤسسات المجتمع المدني باقرار دستور 2002 الذي فرض على البلاد بدون ان يكون للشعب دور في صياغته او اقراره عبر استفتاء حر، وقانون التجمعات الذي يصادر حرية التجمع والاحتجاج، وقانون الارهاب الذي يحكم بالاعدام من يعارض دستور 2002 ، اذ نصت المادة السادسة منه على ما يلي : “يعاقب بالإعدام كل من أنشأ أو أسس أو نظم أو أدار، على خلاف أحكام القانون، جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة أو عصابة أو فرعا لإحداها، أو تولى زعامة أو قيادة فيها، يكون الغرض منها الدعوة بأية وسيلة إلى تعطيل أحكام الدستور أو القوانين”. خامسها: ان عددا من أعضاء مجلس الشورى (نصف المنتخب) اعترف بان المجلس لم يصدر تشريعا واحدا بشكل مستقل عن ارادة الحكم.
التطورات السلبية في الايام القليلة الماضية جاءت لتضفي المزيد من الوجوم على الوضع العام. فقد بدأت السجون تستقبل المعارضين مجددا، وازدادت أعداد قوات الشغب في العاصمة خصوصا عندما يعلن عن مسيرة احتجاجية او اعتصام مطلبي. وجاء التصدي للمسيرة السلمية مساء الجمعة الماضية ليذكر المواطنين، ليس بحكم القانون، بل بسلطة العسكر وقوة السلاح. فقد اعتقل احد النشطاء السياسيين، الدكتور محمد سعيد، بتهمة سعيه لتوزيع كتيب يعارض المشاركة في الانتخابات المقبلة لمجلس الشورى نصف المنتخب، ومعه شاب آخر هو السيد حسين عبد العزيز الحبشي، ويخشى من تطبيق قانون الارهاب عليهما. ولعلها المرة الاولى في التاريخ المعاصر ان يتم تقنين عقوبة الاعدام ضد من يعارض دستورا ما بأية وسيلة، حتى لو كانت سلمية.. ولذلك تصاعدت الاصوات الدولية المطالبة باطلاق سراح الشخصين المذكورين اللذين اعتبرتهما المنظمات الحقوقية الدولية “سجناء رأي”. وزاد الوضع اضطرابا في الايام الاخيرة تبلور حالة استقطاب حاد في المواقف بين الحكم والمعارضة التي تمثلها حركة الحقوق والحريات “حق”. فالحكومة تسعى لفرض أمر واقع بعد فرض دستور 2002 مهما كلف الامر، وتراهن على عدد من العوامل: اولها شيخوخة أغلب رموز المعارضة التقليديين وعجزهم عن مواصلة المشوار، ثانيا: تعميق الشق الطائفي بين ابناء الوطن الواحد على اسس مذهبية وعرقية، الأمر الذي أكده تقرير “البندر”. ثالثا: الاعتقاد بامكان تحييد مواقف بعض الرموز السياسية والدينية المعارضة عن طريق الاموال والوجاهات والمناصب. رابعا: تقنين القمع في ظل دستور يمنح الحكم سلطات مطلقة لسن القوانين، ويسلب من المواطنين، او من يمثلهم، حق الشراكة في صنع القرار. خامسا: ان قرارات مجلس الشورى (نصف المنتخب) غير ملزمة للحكم، فهو يختار منها ما يناسب سياساته ويرفض ما لا يناسبه. وتجلى ذلك بوضوح عندما اتخذ المجلس قرارا ضد فتح مكتب صهيوني في المنامة، فتجاهلته العائلة الحاكمة وكأنه لم يكن. وبدلا من ان تكون الممارسة الانتخابية طريقا للعمل المشترك، تعامل معها الحكم على انها شهادة “حسن سلوك” يعلقها على صدره امام من يعترض او ينتقد غياب اية ممارسة ديمقراطية.
في خضم هذا التداخل الغريب في تشعبات الوضع السياسي لهذا البلد الخليجي الصغير، برزت من تحت انقاض المرحلة السابقة التي انتهت باحتواء عدد غير قليل من “المناضلين” القدامي، حركة الحقوق والحريات “حق” التي ركزت على عدد من الثوابت وبدأت النضال على اساسها. اولها افشال المشروع السلطوي في التشطير المجتمعي على اسس عرقية او مذهبية. وهنا يلاحظ ان هذه الحركة تختلف عما يسمى “جمعيات المجتمع المدني” الاخرى. فهي  تجمع المواطنين الراغبين في مواصلة مشوار النضال، ليس من منطلقات مذهبية او ايديولوجية، بل على عدد من الثوابت التي تهم المواطنين والوطن. ولذلك تميزت هذه الحركة بعدد من السمات: اولها انها رفضت العمل من تحت مظلة الحكم، ورفضت التوقيع على “قانون الجمعيات”، وضمت قيادتها عددا من الرموز السياسية المخضرمة، ذات التاريخ الوطني الناصع، وتعددت التوجهات الايديولوجية والمذهبية بين اعضائها، فضمت السني والشيعي، الوطني والاسلامي، الرجل والمرأة. دفعها رفض مبدأ التشطير الاجتماعي لحركة المعارضة، الى الاصرار على المواقف المبدئية، ورفض المساومات عليها، والتركيز على حسن الأداء بدلا من تقديم الوعود التي لا تتححق. يضاف الى ذلك انها أحدثت نقلة نوعية في العمل السياسي المعارض لنظام الحكم في البحرين، وذلك بتوسيع أفق خطابها السياسي ليشمل جميع المواطنين اولا، ولينفتح على الأفق الدولي من أوسع مداركة، والخروج من الشرنقة التي سعى الحكم لتوريط المعارضين فيها. هذه الحركة لم تعد تمثل اتجاها دون آخر، بل تمثل الاجماع الوطني الذي يتجاوز الخصوصيات المذهبية والاثنية، ويتصل بالقيم العليا لدى العقلاء والنشطاء واهل المباديء. وكان من الاعمال الاولى لهذه الحركة طرحها مشروع عريضة اممية موجهة الى الامين العام للامم المتحدة للمطالبة بدستور عقدي تشرف على صياغته. وحشر الامم المتحدة في القضية ليست اعتباطا بل يستند الى خلفية تاريخية تتصل بالانسحاب البريطاني من البحرين والخليج في 1971. ذلك الانسحاب لم يكن ليسمح للعائلة الحاكمة في البحرين بحكم البلاد لولا موافقة اهل البحرين على ذلك، وتصريحهم به للجنة الدولية التي بعثتها الامم المتحدة في 1970 لاستمزاج آراء المواطنين ومواقفهم. فجاء قيام دولة البحرين العربية والاعتراف بحكم العائلة الحاكمة فيها مشروطا بالشراكة السياسية مع اهل البحرين. وهذا ما حدث بعد الانسحاب مباشرة، فكان دستور 1973 الذي كان وثيقة توافقية بين الطرفين. ويعتبر المعارضون ان ما فعله الشيخ حمد بإعلان دستوره الجديد في 2002 إلغاء لمبدأ الشراكة والتعاقد، الامر الذي لا يستقيم مع روح الثقة والرغبة في الشراكة التي تجلت قبيل الانسحاب البريطاني. من هنا طرحت حركة “حق” اكبر عريضة في تاريخ البحرين (وقعها اكثر من 82 الفا من المواطنين) رفعت في الصيف الماضي الى الامم المتحدة مطالبة بدستور تعاقدي تشرف الامم المتحدة على صياغته واقراره. وهناك معلومات ترشح بين الحين والآخر من داخل دهاليز الحكم بان العائلة الحاكمة سوف تتصدى بعنف ضد الحركة التي تعتبرها المعوق الاكبر لسياساتها في البحرين.  
وثمة تساؤلات عن البعد الامريكي في ما يجري في البحرين. فواشنطن التي فشلت سياساتها في كل مكان تقريبا سعت، وما تزال تسعى، لاظهار نجاحات لمشاريعها السياسية، ولذلك لم تخف دعمها الواسع للمشروع السياسي في البحرين، على أمل ان تطرحه نموذجا لـ “التغيير الديمقراطي” المطلوب. ولكن استمرار المعارضة الفاعلة ضد هذا المشروع أدى الى حالة جديدة من  الاحتقان السياسي تؤكدها الوقائع اليومية، وقللت كثيرا من بريق التجربة. واشنطن، وبالتحديد وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية، هي مهندسة “المشروع الاصلاحي” الحالي، حيث بدأت في بلورته بعد رحيل الامير السابق في 1999، واستقطبت له عددا من الاشخاص الناشطين في المجالات السياسية والحقوقية والدينية، في مقابل تخفيف القبضة الامنية واطلاق سراح السجناء السياسيين. وقد نشطت واشنطن في الترويج للمشروع، فافتتح مكتب للمعهد الوطني الديمقراطي (ان دي آي) ليكون حلقة الوصل بين واشنطن والمؤسسات المدنية والرموز السياسية والدينية، ونشط السفير الامريكي بلقاءاته المتواصلة مع النشطاء والرموز لحثهم على التخلي عن المعارضة والعمل مع الحكم. اما الخارجية الامريكية فقد رفضت اللقاء مع اية جهة رافضة للمشروع. والأخطر من ذلك ان مكتب (ان دي آي) تدخل مباشرة في صياغة اللوائح الداخلية لبعض الجمعيات السياسية لضمان انسجام تلك اللوائح مع المشروع السياسي. ادت تلك الصياغة الى فرض واقع جديد على تلك الجمعيات، مكن أقلية صغيرة من أعضائها من اتخاذ قرارات مصيرية ومنها قرار مسايرة الحكم. المشروع السياسي في البحرين اذن، انطلق بجهود امريكية قبل سبعة اعوام، وتزامن مع تطور تصاعدي في العلاقات بين المنامة وتل أبيب، سياسيا واقتصاديا وأمنيا. فحتى عندما أقر مجلس الشورى (نصف المنتخب) قراره الوحيد ضد اقامة العلاقات مع الكيان الاسرائيلي، تجاهلته الحكومة وكأن شيئا لم يكن.
الجديد في الأمر ليس قرار بعض الجمعيات السياسية المشاركة في انتخابات هذا الاسبوع، بل في موقف بعض هذه الجمعيات وداعميها من المرجعيات الدينية بالتغاضي عن اربعة امور اساسية: اولها الدور الامريكي في المشروع السياسي الذي تمت صياغته بقدر من الحرفية، بحيث يسحب من المواطنين “بيعة” للحكم، ويوهمهم بانجازات غير موجودة في مقابل تقليص دورهم في التشريع والشراكة السياسية. ثانيها: تنامي العلاقات مع الكيان الاسرائيلي الذي لم يعد خافيا على احد، والذي تطرق اليه علنا كل من ولي العهد ووزير الخارجية اللذين اجتمعا بشمعون بيريز، نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي، على هامش الدورة الاخيرة للامم المتحدة، وأعربا له عن أملهما بزيارة تل أبيب قريبا، وان يقوم هو بزيارة البحرين. وقد تلاشت معارضة تلك الجمعيات والمرجعيات الدينية للتغلغل الاسرائيلي في هذه الجزيرة الخليجية،  لأسباب غير معروفة، ولكنها تدعو الى التساؤل والقلق. ثالثها: غض الطرف عن مفهوم “سيادة الشعب” في ما يتعلق بكتابة  الدستور، وهو المبدأ الذي غاب تماما عن رمزي الشاعر، الخبير الدستوري المصري الذي كتب دستور 2002، وصاغ بنوده  ليتناسب مع ما يريده الحكم، بعيدا عن الموقف الشعبي. وهذا الشخص نفسه هو الذي يستعين به الرئيس المصري هذه الايام في ما يسميه “التعديلات الدستورية” لذر الرماد في العيون. رابعا: القوانين التي فرضها الحكم بعيدا عن الارادة الشعبية ومبدأ الشراكة في صنع القرار، فأصبحت ملزمة لمن يلتزم بها ويعيد وجوده القانوني على ضوئها. في الوقت نفسه، ثمة ادراك لدى المواطنين بعدم جدوى المشاركة في مشروع سياسي لا يعبر عن الارادة الشعبية ولا ينسجم مع القيم الديمقراطية والدور الشعبي في اطار مفاهيم الشراكة والتعددية والاعتراف المتبادل بين المكونات المجتمعية. وفي الوقت الذي نظمت فيه حكومة البحرين برنامجا اعلاميا واسعا، واستدعت فيه عددا كبيرا من الصحافيين الاجانب على نفقتها، فقد اصبح واضحا لدى العديد من هؤلاء الاعلاميين صعوبة الوضع البحريني الذي يتحرك في منطقة لم تعرف بشغفها للممارسة الديمقراطية، خصوصا من جانب الحكومات، والمحاولات المتواصلة لافراغ مفاهيم الشراكة السياسية من محتواها، على امل ان تؤدي البهرجة الاعلامية اهدافها لصرف الانظار عما يجري على ارض الواقع في المنطقة. وهكذا تبدو الانتخابات البحرينية هذه المرة أكثر حرجا، ليس للمقاطعين، بل للحكم والجهات المحسوبة عليه، وكل من شارك في مشروعه الانتخابي. فتجربة السنوات الاربع الماضية لم تحقق للاطراف المعنية شيئا يذكر: فلا الحكم حصل على شهادة دولية بحسن  السلوك، ولا المشاركون فيها استطاعوا اثبات خطأ قرار المقاطعة، ولا المقاطعون استطاعوا الحفاظ على وحدة صفوفهم والاتفاق على مشروع معارض متكامل. وربما الامريكيون، وحدهم، هم الذين حققوا شيئا يذكر: فبالاضافة الى هندسة المشروع السياسي في هذا البلد، استطاعوا اقناع بعض الأطراف ذات الحساسية التاريخية تجاههم، بالمشاركة في مشروعهم، بدعم سياسي وديني لم يتحقق من قبل.

Show More

Related Articles

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

Close