Archive
Bahrain Freedom Movement
عانق الجوزاء بروحك، وزاحم كواكبها بمنكبيك، فقد هزمت الطغاة في معاقلهم، وكسرت كبرياءهم، فكنت مثالا للمواطن البحراني الصالح الذي لا ينام على ضيم، ولا يساير الظالمين. خيروك بين زنزانة التعذيب والسجن الكبير، فاخترت التصدي لروح الاستسلام، عارفا ان ظلامتك ستتحول الى ملحمة صمود يقرأها الاجيال التي تتكون في رحم الامهات، بعد ان عميت العيون، وصمت الآذان في ضوضاء “العرس الديمقراطي”.
كان صعبا عليك ان ترى الزاحفين على بطونهم بعد ان ترجلوا ورموا سلاحهم ورفعوا الرايات البيضاء ، وانت الذي ما زالت ذاكرتك تختزن ذكريات التعذيب، فقررت ان تقدم ما تستطيع من خدمة لمباديء الكرامة وحقوق الناس وقيم الدين والاخلاق. كانوا لك بالمرصاد، لان نظام الارهاب الذي فرضوه على البلاد والعباد أوهن من بيت العنكبوت، يخشى من الكلمات فضلا عن السلاح والعتاد. فكلمة تنطلق من فم صادق في ايمانه ومواقفه قادرة على هز كيانهم الغاصب وبنياهم الذي شيدوه على جماجم الشهداء ودماء الابرياء وجراح المظلومين.
شابان من ابناء هذا الوطن استطاعا ان يكشفا زيف ادعاءات هذه العائلة المستبدة التي لا تؤمن بقيمة للانسان والشعب والوطن، وينحصر ايمانها بالسلب والنهب والاقصاء والتضليل والنفاق والرياء. تحدث مسؤولوهم، عبر ابواقهم، عن “جريمة” حيازة مطبوعات. ليس هناك في هذه الدنيا كلها نظام عصري يعتبر حيازة مطبوعة ما “جريمة” الا في مملكة الصمت الخليفية. لقد صادروا حرية الكلمة والتعبير بأساليب ساقطة وملتوية، وسعوا لتقنين الاستبداد بدساتيرهم وقوانينهم من جهة، وشراء المواقف والذمم للترويج لذلك من جهة اخرى. الشابان تخرجا من مدرسة السجن التي صنعت الارادات الحديدية لدى الثلة المؤمنة الصابرة التي أبت الاستسلام والمسايرة، في مقدمتهم الاستاذان الكبيران: حسن المشيمع وعبد الوهاب حسين. تعلما من تلك المدرسة ان الحرية تولد من ظلمة السجن وغرف التعذيب، وليس من صالات فنادق الدرجة الخامسة التي شهدت في السنوات الاخيرة مؤتمرات بعض قطاعات “المعارضة”، او قاعات مجالس اللغو والزور التي تشرعن الاستبداد الخليفي، وتصادر حرية المعارضة خارج الاطر الخليفية التي تقنن الظلم والاستبداد والفساد والنهب والقضاء على هوية البلد.
نقف في حضرة شابين عملاقين في ميزان أعمال الخير وأسفار النضال، لنقرأ في موقفهما عنوانا للمسؤولية التي يشعر بها آلاف الاحرار من ابناء الوطن، وهو يخوضون معركة الوجود والحقوق مع النظام الخليفي الجائر. ننظر الى عينيهما وهما يقفان في محكمة قرقوش ليحاكما الجلادين. أيها القن الذي أعطيت رتبة القضاء: أتعتبر حيازة الشابين مطبوعات لا ينسجم محتواها مع توجهات عصابة الاحتلال جريمة وتغض الطرف عن الجرائم التي ارتكبت ضد الانسانية على ايدي اشخاص معروفين باسمائهم ومناصبهم ومنهم عبد العزيز عطية الله آل خليفة، واخوه احمد، زعيم العصابة الاجرامية التي سلبت اموال الفقراء لتنفيذ جريمة ابادة واضحة؟ نعلم انك عبد مستخدم لدى اسياده، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فهل انقطعت بك السبل عن كسب الرزق الحلال بعيدا عن العبودية للطغاة والقتلة والسفاحين؟ أليس من الاشرف لك ان تسكت عن الكلام بدلا من النطق بما لا يرضي الله ولا ينسجم مع ابسط القيم الانسانية؟ تعسا لك ولأسبادك، فأنتم جميعا شركاء في جريمة التنكيل بعباد الله، وسرقة اموالهم واراضيهم، وتبديل شرع الله. ظهرت في المحكمة قنا صغيرا، تحتل موقعا أكبر منك ومن نصبك فيه، فهو يحكم بالظلم والعدوان، ويناقض شرع الله، وقيم الانسانية، ويستمد قوته ليس من الحجة والبرهان، بل من قوة السلاح والقهر والشعور بالغلبة. انها محكمة المنتصر التي لا يجد فيها الطرف الآخر عدلا او منطقا، بل تنطلق احكامها من الرغبة في الانتقام اللئيم.
نعيش في الزمن الرديء الذي طالما حلمنا بتجاوزه، وظننا انه مضى الى الأبد. انه زمن ينكأ الجراح ويفرض ارادة المحتل، ويجبر البعض على الاستسلام. في هذا الزمن الرديء هناك عناصر تأبى الاستسلام، وتؤمن بان الاصلاح لا يمكن ان يتحقق بمسايرة الظلم او الذوبان في نظامه. هؤلاء يقدمون المثل الدارج حول الشخص الذي يسرق ويتصدق من تلك السرقة، فتصبح حسناته أضعاف سيئاته، ويعرفون ان من شرط الحسنات ان يأتي الفعل نظيفا خاليا من السيئات، مستشهدين بالكلام المأثور “لا يطاع الله من حيث يعصى”. اولئك الفتية يمتلكون بصيرة متميزة لا تتوفر الا لمن امتحن الله قلبه للتقوى، فهزم الشيطان في نفسه وتوجه الى ربه، مستعصما به ومتوكلا عليه.
الدكتور محمد سعيد واحد من اولئك الفتية، وهم كثر والحمد لله، ولكنهم مقموعون في هذه الاوضاع التي سادها النفاق والانانية والتراجع، وهيمنت عليها التيارات المادية التي لا تؤمن عمليا بـ “ان الله يدافع عن الذين آمنوا”، ويعتقدون ان فرعون وملأه الذين ملأوا الدنيا ضجيجا، قادرون على كل شيء. واستبدلوا النصوص الواضحة التي تحث على مواجهة الظلم بالانسياق وراء مباحث علل الشرائع ومنطق يدور حول “المصلحة” و “الواقعية” و “الطاعة”. لم يعد هؤلاء يؤمنون بما تأسس الوجود الاسلامي في البلاد عليه قبل اربعة عقود، من ضرورة اقامة الحكم العادل على اساس الاسلام، وأرجأوا ذلك الى ظهور الامام الحجة عليه السلام. كانت هذه مقولة محصورة ببعض الاطراف التي وقفت ضد مفهوم التغيير والثورة، ولكنها اليوم تشكل أحد محاور الصراع الفكري بين “الاسلاميين المتعلمنين” وعناصر التغيير التي تؤمن ببصيرة ووعي بقيم المصلحين الكبار وفي مقدمتهم الامام الخميني والشهيد الصدر رحمهما الله. جاء اعتقال الدكتور محمد سعيد وزميله وصمت “الاسلاميين المتعلمنين” ازاءه لتغليبهم “مصلحة الصمت” في مرحلة “الاستحقاق الانتخابي” على المبدأ الذي يطرحه الامام السجاد عليه السلام في احد ادعيته المشهورة: “اللهم اني أعتذر اليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره” ليؤسس لمنحى جديد في المقاومة المدنية في المرحلة المقبلة. هذه المقاومة بدأت معالمها وشخوصها، ومنهم علماء ومثقفون وناشطون، ويمكن اعتبارها مفاصلة بين عهدين، احدهما انتهى بشيخوخة بشرية وفكرية ادت الى تخلي بعض الرموز الكبيرة عن فكر التغيير الذي عاشته في شبابها، والآخر يبدأ بجيل جديد، ورموز تجمع بين العلم والتفقه والتجربة والبصيرة. ويمكن النظر الى حادثة الاعتقال، برغم محاولة تهميشها من قبل البعض، بداية عملية لنهوض التيار التغييري الجديد، بعد المفاصلة مع الماضي بمرارته وآهاته. محمد سعيد واخوه تسنما ذروة المجد بموقفهما في هذا الظرف الحساس، فجاء التفاعل المحلي والدولي (من غير الاسلاميين المتعلمنين) ليفتح أفقا جديدا للنهضة السياسية والفكرية الجديدة، القائمة على اسس الحرية والدين من جهة ومقاومة نظام الظلم والاستبداد بلا هوادة من جهة اخرى. انه مخاض عسير، بدأت آهاته باعتقال أبطال الوطن، كبداية حتمية للانطلاقة المظفرة ضد الاستبداد والظلم والمسايرة والاستسلام.
أمر واحد نغبط الأخوين البطلين عليه وهو غيابهما عن المسرحية الهزيلة التي تفرض فصولها على الوطن والشعب بسلطتين: سياسية ودينية. لقد تقيأ الأحرار وهم يشاهدون فصلا من المسرحية الأولى التي دشن بها الطاغية عهده، عندما سيق الشيخ الجمري، أسيرا وبرغم ارادته، الى مجلس أحفاد يزيد، ليصافح الايدي الملطخة بدماء الشهداء، وليعتذر لفظيا، لهم. وسوف يتقيأون أكبادهم دما عندما يشاهدون العمامة في ذلك المجلس، تصافح تلك الأيدي مجددا، وتعتذر عمليا.. لكنها تفعل ذلك هذه المرة بفتوى دينية!