الأرشيف

فهم النص والارتباط بالواقع شرطان أساسيان للتجديد الإسلامي

بقلم: د. منصور الجمري (اغسطس 2001) المناقشات الدائرة في الأوساط الثقافية في عالمنا الإسلامي تتمحور حول مدى فهم واستيعاب النخبة لتراث الأمة ودينها المتغلغل في الوجدان من ناحية، وفهم الواقع المعاصر من ناحية أخرى. وهذا يعني أن النخبة الناشطة في المجتمعات الإسلامية مطالبة بتحديد علاقتها بدين الأمة وتراثها وعلاقتها بالعصر والواقع الذي تعيشه الأمة. بمعنى أن الحديث عن الأصالة والحداثة مازال يراوح في مكانه لأن كثيراً من النخب المتعصرنة حاولت فصل الأمة عن دينها معتقدة بأن الحل يكمن في هذا المنحى الأوروبي المنشأ. وارتبط هذا المنحى التغريبي بالفترة الاستعمارية التي حولت البلاد الإسلامية لمناطق نفوذ مستهدفة من ذات الدول التي تتحدث عن مبادئ العصرنة والتنمية والديمقراطية. ولا شك أن مثل هذا التداخل عطل عملية النقد الذاتي التي تحتاجها كل أمة قبل أن تصعد مرة أخرى وترتقي إلى مستويات متقدمة. وأصبح النقد الذي لا مفر منه مدخلاً لمشاكل وتعقيدات اضطرت كثيراً من المخلصين للانزواء عن عملية الإصلاح الحضاري. في مواجهة تلك الحالة، هناك من النخب من ارتبط بالتراث والدين والنص وفهمه جيداً ولكن دون أن يربطه بالواقع المعاش، مما حول الفهم الديني إلى أثقال وأسفار يحملها دون الاستفادة منها. وهكذا نرى أن عدداً من التجارب في بلداننا والتي تصدرها إسلاميون تحتوي على خلل أكبر من الخلل الذي تحتويه تجارب تصدرها أناس بعيدون عن دينهم. فالوضع الطالباني في أفغانستان ليس حالة منفردة، وإنما يمثل ظاهرة تعشعّش وتفرخ التخلف والرجعية باسم الدين الإسلامي. ويتقاطع الحديث حول الأصالة والتحديث مع مفاهيم أساسية لا يمكن لأي مجتمع النهوض بدونها. ومن تلك المواضيع الشائكة مواضيع الديمقراطية والتعددية وحقوق المرأة والحرية الفكرية. فكثير ممن يتحدث باسم الدين يعادون هذه المفاهيم ويلجأون إلى نقيضها، إلى الدكتاتورية وقمع حرية التعبير والآحادية في الفهم دون أن يدلل هؤلاء على صحة وأصالة ما يطرحونه. لقد غفل هؤلاء بأن هذه المفاهيم لم تكن أبداً غريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية بل إن فقهاء وفلاسفة الإسلام كانوا يسمحون لأنفسهم بالاختلاف في أهم ركن من أركان الدين، ألا وهو موضوع التوحيد. ولذلك فقد كان لدينا أشاعرة ومعتزلة ومتصوفة وإمامية وغيرهم، وجميع هؤلاء تحاوروا واختلفوا دون أن يكفّر بعضهم الآخر. والتكفير ومعاقبة الناس على آرائهم إنما فرضه بعض الحكام في تاريخنا الإسلامي لحاجة في أنفسهم وليس لإيمانهم بهذا المبدأ أو ذاك. لقد تتلمذ علماء المسلمين على أيدي بعضهم الآخر رغم أنهم خرجوا بنظريات تختلف مع بعضها الآخر. وإذا كان المسلمون في صدر الإسلام سمحوا بالتعددية في أهم ركن من أركان الدين، فكيف يسمح البعض لنفسه أن يحرم المسلمين من التعددية في الفهم السياسي والاجتماعي وطرق معالجة الأمور لتنمية قدرات الأمة؟ إننا لا ندعو للعبثية أبداً، ولا نقول بأن كل فرد يحق له أن يقول ما يشاء دون دليل ودون منهجية. لا نقول ذلك ولم يقله المصلحون الذين رفعوا راية التجديد في العصر الحديث. ولكننا نعتقد أن مفاهيم الحرية الفكرية والتعددية والإرادة الحرة لمجتمعاتنا الإسلامية هي التي حفظت لنا الدين (بإذن من الله تعالى) وهذه المفاهيم هي التي مكنت بلاد المسلمين من تصدر الحضارة الإنسانية لعدة قرون قبل أفولها. وليس خافياً أن أفول الحضارة الإسلامية ارتبط بصعود الاستبداد وسيطرة المتمصلحين من الأوضاع الفاسدة وتمكين جهال الأمة باسم الدين. فهؤلاء الجهال هم، مثلا، الذين أصدروا فتوى في مطلع القرن السادس عشر حرّموا المطابع الحديثة لطبع الكتب وقالوا بأن استخدامها يدخل المرء النار. وبقيت فتوى التحريم مستمرة قرابة قرنين ونصف، ولم يسمح للمطابع بدخول البلاد الإسلامية إلا في القرن الثامن عشر، وكان الأوان قد فات والنهضة العلمية قد تأسست في البلدان الأخرى، بينما انغرس الجهل والتجهيل في بلداننا الاسلامية باسم الدين. الذين حرّموا المطابع باسم الدين موجودون الآن في أوساطنا ويحرّمون (باسم الدين) على المرأة المشاركة في الحياة العامة، ويحرّمون الديمقراطية والتعددية، وكل ذلك باسم الإسلام. وإذا سمح لهم بالاستمرار في احتكار اسم الدين بهذه الطريقة فإننا قد نرى أنفسنا نتحدث عن بديهيات لعدة قرون، بينما الآخرون يسبقوننا في كل شيء، تماماً كما حصل للمطابع وتحريمها.

يقول المفكر الإسلامي الإندونيسي نورشليش مجيد «إن المفاهيم الحيوية يتم تعطيلها رغم وضوح مصادر الإسلام وأهمها القرآن الذي حفظه الله من التحريف. لقد حفظ الله القرآن من التحريف، ولكن فهم المسلمين لما هو وارد في كتاب الله لا بد له أن يتطور ليتضمن تجارب الإنسانية ويشارك في تطوير تلك التجارب بالاتجاه الذي يدعو له القرآن. وهذا يتطلب عدم تعطيل المفاهيم الحيوية وعرقلة تطبيقها في مجتمعاتنا». نعم إننا نؤمن بضرورة التنوير والدخول إلى العصر مع الاحتفاظ بالأصالة الإسلامية. أما التقوقع في الماضي والانزواء عن تجارب الأمم ومحاربة المفاهيم الحيوية فإنه لن يخدم الإسلام أو المسلمين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق