الأرشيف

تأصيل الطرح الإسلامي

استعراض: د.منصور الجمري لندن – ابريل 1999 السعي الحثيث لإيجاد ميثاق للناشطين الاسلاميين يتطلب جهودا فكرية متواصلة لكي تتعمق القناعات حول المواضيع الرئيسية التي تواجه الإسلاميين أثناء ممارستهم دورهم في الحياة العامة. لقد أصبح العالم يتكلم اليوم لغة تعتمد على قواسم فكرية مشتركة، تلك هي لغة الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية. وأصبحت هذه اللغة معيارا أساسيا لتحديد العلاقات والمعاملات بين التوجهات السياسية وبين القوى الاجتماعية داخل المجتمعات وبين الدول ذاتها. وأصبح هناك اليوم من ينادي بضرورة اعتماد “سياسة أخلاقية” كقاعدة أساسية من قواعد السياسات الخارجية بين الدول. الإسلاميون ينبغي أن يكون لهم دورهم الريادي في هذا المجال، فهم الذين يحددون مسارهم بأنفسهم. وإذا تخلوا عن هذا الدور، فإن هناك من سيطرح نفسه معلما فوقيا للإسلاميين. فهناك من يرى أن التناقضات والأزمات والتشتت والتبعية التي أصابت عالمنا الإسلامي أدت بالإسلاميين إلى مجموعات تحن إلى عصر ذهبي ماض كوسيلة للهرب من الحاضر البائس، وأن الطروحات الإسلامية ما زالت تتراوح بين “تنظير يبتعد عن الواقع”، أو “كلالة تخرجه من نطاق الفعالية والقدرة على التطبيق”، أو “غوغائية ترمي به في مستنقع العنف بديلا عن الحوار”، وأن هذا كله دليل على نضوب الأفكار. ورغم أننا نختلف مع وجهة النظر المتشائمة أعلاه، إلا أنها تحمل شيئا من الصحة. فهناك العديد من الاتجاهات الإسلامية التي تهرب من الواقع من خلال إطلاق الشعارات البراقة غير القابلة للتحقيق، وهناك من اعتبر نفسه صاحب الحق في إرسال هذا الشخص أو تلك الفئة إلى النار أو الجنة نيابة عن الله عز وجل. يذكر رضوان زيادة في دراسته التي نشرت في مجلة المستقبل العربي (أكتوبر 1998)، أفكار نوعية لشخصيات إسلامية. اذ يعتبر محمد الغزالي “أن حقوق الإنسان في الإسلام ليست منحة من ملك أو حاكم، أو قرارا صادرا عن سلطة محلية أو منظمة دولية، وإنما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهي لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل ولا يسمح بالاعتداء عليها ولا يجوز التنازل عنها”. أما علي عبد الواحد وافي فيؤكد “أن الإسلام هو أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صورة وأوسع نطاق، وأن الأمم الإسلامية في عهد الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدين من بعده كانت أسبق الأمم في السير عليها، وان الديمقراطيات الحديثة لا تزال متخلفة في هذا السبيل تخلفا كبيرا عن النظام الإسلامي”. ويعتبر محمد عمارة حقوق الإنسان في الإسلام ضرورات لا حقوقا، فيقول: “إننا نجد الإسلام قد بلغ في الإيمان بالإنسان وتقديس حقوقه حدا تجاوز به مرتبة “حقوق” عندما اعتبرها ضرورات ومن ثم أدخلها في إطار الواجبات”. ويرى راشد الغنوشي “أن حقوق الإنسان في الإسلام تنطلق من مبدأ اعتقادي أساسي أن الإنسان يحمل في ذاته تكريما إلهيا، وأنه مستخلف عن الله عما في الكون، الأمر الذي يخوله حقوقا لا سلطان لأحد عليها”. أما يوسف القرضاوي فيرى “أن الإسلام عني بحقوق الإنسان قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، كل إنسان من أي جنس كان، ومن أي دين كان، ومن أي إقليم كان، وذلك بناء على فلسفته في تكرم الإنسان من حيث هو إنسان”. ومع تزايد الاهتمام العالم بحقوق الإنسان كتب أحمد كمال أبو المجد، “إعلان مبادئ” سماه “رؤية إسلامية معاصرة”، ليجعل منها دعوة لتشكيل تيار إسلامي جديد متفق عليه وجعل من اسسها “مبدأ احترام حقوق الأفراد وحرياتهم إلا حيث تجور ممارسة تلك الحقوق على مصالح الكافة أو تعرضها للخطر”. ويرى أن “من المؤسف له أن قضية الشورى وحقوق الإنسان لا تحتل في أكثر نماذج الفكر الإسلامي المنتشر بين الشباب الغاضب مكانها الصحيح”. أما محمد أبو القاسم حاج حمد، فيرى أن “حقوق الإنسان في الإسلام تتمحور كلها حول النظام العائلي وحول صيانته بالتشريع، وحين تقوم العائلة في إطار الإسلام فإنها تحصن نفسها من الداخل، فحقوق الإنسان في القرآن تحصين ضد الذات بتحجيم نوازعها عبر العديد من القيم العقلية والأخلاقية، بحيث يصبح الإنسان نافعا لنفسه ولغيره بالوقت ذاته”. وبشكل عام يتفق الإسلاميون على أن العقيدة هي أساس حقوق الإنسان وأن حقوق الإنسان تقع ضمن الاستخلاف الإلهي للإنسان. وكما يعبر أحدهم، “إن الإنسان في الإسلام مستخلف عن الله وضمن عهد الاستخلاف تنزل جملة حقوقه وواجباته ويتم التوفيق والتلازم بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة، إذ قد تضمن كل حق للفرد حقا لله، أي حقا للجماعة، مع أولوية كلما حدث التصادم”. وتدخل ضمن تلك الحقوق الضروريات الشرعية الخمس: حفظ الدين والعقل والنفس والنسل والمال. وتوسع العلماء المسلمون فجعلوا حقوق الإنسان تشمل التوسعة في الحياة، وتوسعوا فيما يضمن لحياته أن تكون آمنة مطمئنة سعيدة لحق التعليم وحق المساواة وحق التنقل والتصرف وغيرها”. وقد بدأ التأسيس الإسلامي لحقوق الإنسان في أواخر الأربعينات مع العودة إلى استخدام المقولة القرآنية حول “الاستخلاف الإلهي للإنسان” على الأرض في مواجهة مقولة “القانون الطبيعي” التي تأسس عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. وكان أول من طرح هذا الموضوع عبد القادر عودة، ثم طور محمد عبد الله دراز فكرة التكريم الإلهي هذه استنادا إلى القرآن، فقال: إن الإنسان كرم من الله بأربع كرامات هي: كرامة الإنسانية والاستخلاف والإيمان والعمل. ثم نظر السيد محمد باقر الصدر في نهاية السبعينات لموضوع “خلافة الإنسان وشهادة الانبياء” قائلا “ان الله سبحانه وتعالى شرف الإنسا
ن بالخلافة على الارض فكان الإنسان متميزا على كل عناصر الكون بأنه خليفة الله على الارض”. وتحدث السيد الصدر في مقام اخر عن صفات الله تعالى مشيرا إلى ان هذه الصفات الالهية تعتبر المقاييس والضوابط الموجهة لسلوك الإنسان.  هذا التأصيل الاسلامي لمنظومة القيم لازال بحاجة للمزيد من التعميق لان منظومات القيم المطروحة عالميا اصبحت متجذرة في الانظمة العالمية – سواء منها السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية. فبالاضافة لمفهوم “القانون الطبيعي” (الذي يتوافق مع كثير من مفاهيم الاسلام التي تتحدث عن الفطرة) هناك منظومات القيم القائمة على الفلسفات المادية والوجودية والعدمية ومايسمى بفكر “مابعد الحداثة” القائم على مجموعة من الفلسفات المذكورة بالإضافة للايمان ب”النسبية” و”المنظورية”. بمعنى ان الحق والباطل ماهي الا امور نسبية خاضعة للمنظور الانساني المتغير مع الزمن. فما هو خطأ في الماضي ليس بالضرورة خطأ في الحاضر وليس هناك حقا (او باطلا) دائما ومطلقا.  التأصيل الاسلامي يتأخر عن الركب العالمي بسبب الجمود الفكري الناتج عن الضغط السياسي المنتشر في البلاد الاسلامية. ولهذا فان التحديات الحضارية أمام المسلمين لايمكن مواجهتها إلا باحترام الإنسان في ظل مجتمع مدني قائم على حكم القانون الدستوري. وهذه هي فحوى الدعوة التي وجهها السيد محمد خاتمي في كلمته التي ألقاها أمام القمة الإسلامية في 9 ديسمبر 1997. إذ يعتبر ذلك الخطاب محاولة جريئة لتأصيل الطرح الإسلامي بخصوص المجتمع المدني وحكم القانون والحريات السياسية والمواطنة. لقد استطاع خاتمي أن يقدم تصوره و”حلمه” الذي يسعى لتحقيقه في المجتمع. ولهذا فإن دعوته لاعتبار “مدينة الرسول” المدينة المعنوية، هي دعوة لبناء النموذج النظري في الذهنية الإسلامية. هذا النموذج النظري الذي ينبغي له أن يتعاطى الخبرات الإنسانية المتطورة وتقديم “مدينة النبي” مرة أخرى للمسلمين كمدينة تسمح بالحريات السياسية والدينية وتنافس “المدينة الغربية” في تقديم الحلول لإسعاد بني الإنسان في هذه الدنيا قبل الآخرة. وفي هذا المجال قدم الاستاذ الدكتور فتحي عثمان بحثا قيما ألقاه في مؤتمر الإسلام والحداثة الذي عقد في لندن في 1996 وتطرق بحثه للاشكاليات والتحديات المطروحة أمام الاسلاميين ودعاهم لمصارحة انفسهم وتحديد مواقفهم تجاه جميع القضايا الحساسة والعالقة. وقد استخلصت النقاط التالية من ذلك المقال لطرح مشروع ميثاق للاسلاميين، والنقاط هي: 1- إن الله كرم بني آدم جميعا دون التفريق بينهم وان هذه الكرامة لا تخضع لأي فروقات مكتسبة (القرآن 17/70). 2- إن الإنسان يتفوق على غيره من مخلوقات الله بفضل تحمله لمسؤولية الإنماء والإعمار (11/61).إن الإنسانية جمعاء تتحمل مسؤولية التنمية من خلال التعارف فيما بينها (49/13).  3- التنوع بين البشر أمر طبيعي ومطلوب، ولكن دون إخضاع البشرية لنمط واحد من طريقة الحياة. البشر مختلفون في قدراتهم ويختبرون في امكانياتهم للتعامل بصورة بناءة مع الآخرين بالاستعانة بالإرشاد الإلهي (5/48، 11/118ـ119). 4- على المسلمين أن يستمعوا وأن يتعلموا من جميع التجارب الإنسانية (39/17ـ18). 5- التغيير الاجتماعي له سنن تاريخية نافذة على الجميع دون تفضيل أو استثناء (3/137، 4/26، 33/38، 35/43، 48/23). 6- إن القرآن والسنة يمثلان المصدر الأساسي للأسس التشريعية وبعض التفاصيل الحياتية للمجتمع. وهذا الطرح يلزم أن لا يناقض التزامات المواطنة وما يترتب عليها من واجبات معنوية وقانونية يخضع لها الجميع (5/1، 16/91ـ96، 17/34). 7- التشريعات المدنية الإسلامية تخضع للأسس القرآنية العامة الداعية لموافقة وإجماع الأطراف المعنية والهادفة لتحقيق غرض إنساني مشروع (4/28). 8- على المسلمين أن يتعاملوا مع بعضهم الآخر ومع غير المسلمين بالعدل والإحسان وان لا يبدأوا بعدوان (60/8). ويجب أن لا يكون هناك أي إكراه في الدين (2/256، 10/299، 11/28). 9- المرأة لها كامل الحقوق السياسية والمدنية دون تفريق بينها وبين الرجل. إدارة العائلة أمر ينبغي الاتفاق عليه بين الزوجين (2/233). الرجل والمرأة عليهما التزامات مشتركة ومسؤولية تجاه بعضهما الآخر لمساندة دورهما في الحياة العامة (9/71). 10- الحاكم جزء من المجتمع، يؤتمن على إدارة المصالح العامة، وبالتالي فإنه مسؤول أمام الامة، وخاضع للمحاسبة العامة (4/59).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق