الأرشيف

دروس حول المفاهيم السياسية إعداد منصور الجمري ـ أبريل 1998م (10) ما هي الدولة القومية؟

? التنظيم الاجتماعي يتشكل من نواة هي الأسرة. والأسرة عندما تتوسع عن طريق التزاوج مع الأقارب تصبح عشيرة أو قبيلة. أما عندما تكون الروابط الجامعة بين أفراد المجتمع هي غير الإنتماء الأسري فإننا نتقل إلى وضع آخر وأكثر تطورا نشاهده في “المدن”. والتنظيم الاجتماعي الإنساني من المفترض أنه تصاعد من القبيلة إلى المدينة ثم إلى الدولة. ? المفكرون اختلفوا حول الدولة، وما إذا كان لها شخصية اعتبارية أم لا. فهناك من قال بأنها قامت في الأصل على أساس غير أخلاقي مثل “نيتشه”. بينما قال آخرون بأهميتها إلى حد التأليه، مثل “هيجل”. غير أن الآراء التي عمت الفكر الإنساني في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تقول بأن “الدولة” هي التعبير القانوني للأمة أو الوطن، وأن أي اعتداء على الدولة هو اعتداء على الأمة والوطن. ? ففي عهد الرومان كان يطلق على من يخالف الدولة الرومانية بأنه ارتكب جريمة “المساس بالعظمة”. وعندما نشأ العهد الامبراطوري الروماني (بعد العهد الجمهوري) أصبح مفهوم “المساس بالعظمة” يعني أي شخص يخالف الإمبراطور. وكان يعاقب في البداية بالحرمان من الأكل والشرب، إلى الحرق، والرمي أمام الحيوانات المفترسة. ? وبعد انهيار العهد الروماني ومجيء عهد الإقطاع في أوروبا اصبح مفهوم الدولة يعني الأراضي التي يملكها ولاة الإقطاع، والواجبات على الاتباع الذين يعيشون على تلك الأراضي. وكلمة الدولة بالإنجليزية “STATE” قريبة من كلمة “ESTATE”، التي تعني العقار وقطعة الأرض، ولهذا لم يكن التفريق بين الإقطاع والدولة في تلك الفترة واضحا. ? الملوك الأوروبيون دخلوا في صراع مع الإقطاعيين حول السلطة وحدودها، وانتصر الملوك على الإقطاعيين بعد أن لجأ الملوك لنفس المفهوم الروماني الذي يرى “المساس بالعظمة” أو “المساس بولي الأمر” يعد جريمة يعاقب عليها. وقد طور الملوك المفهوم الروماني “المساس بالعظمة” وضمنوه الاعتداءات المباشرة ضد شخص الملك أو أولاده أو امتيازاته بالإضافة لأي اعتداء غير مباشر على سلطة من سلطات ولي الأمر – الملك. ? ثم تغير الأمر بعد الثورة الفرنسية 1789م، إذ أعطت مفاهيم الثورة الفرنسية الدولة شخصية معنوية أو شخصية قانونية مستقلة عن شخصيات الحكام سواء كانوا ملوكا أو أمراء أو رؤساء. ومفاهيم الثورة الفرنسية قامت على أساس أن الحكام أداة من أدوات الحكم، أو جهاز من أجهزته، يتبدل ويتغير تبعا للحاجات والظروف. وأما الدولة ذاتها فتبقى لأنها “ظاهرة اجتماعية”، أي وليدة للتعامل بين أفراد المجتمع. وعلى هذا الأساس تم استبدال جرائم “المساس بالعظمة” بالجرائم المخلة “بأمن الدولة”. ? انتشرت الأفكار القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر بصورة ألهبت المشاعر وأعطت قدسية وربما “ألوهية لفكرة “الوطن” و”الأمة” و”القوم”. وقد أدى ذلك اللهب القومي لنشوء حركات عنصرية ووصول الحكم النازي في ألمانيا والحكم الفاشي في إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى. وقام هؤلاء الحكام المستبدون باستخدام حماية أمن الدولة ضد جميع المعارضين واعتبروا المعارض السياسي مجرما وعدوا للشعب لأنه عادى نظام الحكم القائم. ? ومع تطور “الدولة القومية” واحتلالها الموقع الأساسي في تركيبة الأمم المتحدة تعزز كيان الدولة وأصبح بإمكانها أن تصدر القوانين الاستثنائية، أو أحكام الطوارئ بحجة محاربة الإرهاب والتطرف إلخ.. وأنشأت الدولة محاكم أمن دولة ومحاكم استثنائية لمعاقبة المخالفين لها. ? الرغبة القوية في المحافظة على أمن الدولة يواجهها اتجاه المطالبة بحقوق الأفراد وحرياتهم الاجتماعية والمدنية. إذ أن إباحة الأمر للدولة لحفظ “أمنها” دون حدود يؤدي بصورة حتمية لسلب الأفراد والجماعات أمنهم وطمأنينتهم وحرياتهم وحقوقهم التي منحها إياهم دستور البلاد. ? “الدولة القومية” توسعت في قوتها بعد الحرب العالمية الثانية كثيرا، ولأنها الكيان الوحيد المعترف به والذي يؤخذ بصوته في “الأمم المتحدة”، فإن هيمنة أي مجموعة أو حزب أو قبيلة على “الدولة” يعني إفساح المجال أمام هذه الفئة لأن تظلم أفراد المجتمع بحجة الحفاظ على أمن الدولة. وبالرغم من أن الأمم المتحدة تشترط على الدول أن تكون منبثقة من شعوبها تحت عنوان “حق تقرير المصير” إلا أن المؤسسة الدولية عاجزة أمام سلطة الدولة داخل حدود تلك الدولة، لان الامم المتحدة تمنع “التدخل في الشئون الداخلية للدول القومية”. ولذلك فقد سعى “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” لموازنة “ميثاق الأمم المتحدة” من خلال التأكيد على حقوق المواطن ومطالبة “الدول القومية” بالتوفيق على المعاهدات التي تضمن للمواطنين حقوقهم. ? لا زال المبدأ الأساس لتشكيل الدولة القومية “حق تقرير المصير” يشكو من الخلل والالتباس بخصوص كيفية التحقق من تقرير شعب ما لمصيره. وأيضا من هو الشعب الذي يقرر مصيره؟ وما هي مكوناته؟ هل أن الشعب هو الذي تجمعه لغة مشتركة؟ دين مشترك؟ أصل أثني مشترك؟ العيش على ارض مشتركة؟ أقليم معين؟  ? لقد نجح مبدأ “حق تقرير الشعوب لمصيرها” في إسقاط الحكم الملكي المطلق في أوروبا ونجح في إيجاد صيغة لهيئة الأمم المتحدة، ولكنه فشل في تحديد الأنموذج والتطبيق العملي “العالمي”. ولهذا فإن الفكر السياسي يتجه لموازنة الخلل من خلال أطروحة “المجتمع المدني” الذي سيأتي الحديث عنه لاحقا. ? الدولة، إذن، يمكن إقامتها في هذا العصر مع الاحتفاظ بالحكم المطلق، ويمكن أن تقام ضمن إطار دستوري، ويمكن أن تعتبر ظاهرة الهية أو اجتماعية بحسب المنطلق الفلسفي، ويمكن أن تكون طبقية. وفي كل الأحوال استطاعت
الدولة بمجرد أن ترفع علما لها وتصدر عملة باسمها ونشيد وطني وجيش وأمن وإعلام ومطار دولي، أن تصبح عضوا معترف به في منظمة الأمم المتحدة، محدثة بذلك تناقض بين قول المبدأ وحكم الواقع. ? غير أن الدولة القومية تواجه اليوم تحديا حقيقيا لسلطاتها. فلقد تشبعت الدولة من امتلاكها للسلطات واصبحت عاجزة عن تنمية القدرات الاقتصادية، بل أنها أصبحت عالة على نفسها وعلى المجتمع. ولهذا اتجهت الدول القومية “للخصخصة” و”عولمة الاقتصاد” و”تحرير سوق النقد والاموال” للتخلص من الأعباء التي ألقتها على نفسها، واكتشفت أنها لا تستطيع إدارتها وتنميتها بنجاح.  ? وفي البعد الآخر فإن حركة حقوق الإنسان العالمية بدأت تؤثر على السياسة الدولية، وأصبحت المواثيق الدولية والعهود والاتفاقيات ذات فاعلية أكبر من ذي قبل. ولعل مؤتمر هلسنكي في العام 1976، “منظمة التعاون والأمن الأوروبي” قد أوجد نقلة نوعية في هذا الشأن. إذ اعتبرت المنظمة بأن لها الحق أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في المنظمة إذا كان ذلك الشأن يتعلق بحقوق الإنسان. وأخذ المفهوم يتعزز منذ ذلك الوقت في المحافل الدولية. ولذلك فإن نشاطات مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة آخذة في الازدياد والأهمية. ? الحديث تركز على الدول الأوروبية بسبب ان النظام العالمي، [الأمم المتحدة و”حق تقرير المصير” نشأ في أوروبا/امريكا ويتحرك حاليا من خلال القوة السياسية الغربية. والأمم المتحدة، والنظام العالمي يتعرضان لإرهاصات الفكر الإنساني العالمي الداعي للعدالة وتحقيق السلم الدولي على أساس “الحقوق” و”التنمية” وليس على أساس “القوة” و”الهيمنة”. ? لا زالت دساتير بعض الدول تتحدث عن تحريم “المساس بالعظمة” أو “الذات الملكية”، أو “الذات الأميرية”. وهذا المفهوم هو ذاته الذي سنّه الرومان في العصور القديمة. والمشكلة أن هناك الخلط بين شخص الملك أو عائلته وشخصية الدولة. إذ لا يستطيع من يعتقد بملكيته المطلقة أن يفرق بين “الدولة” و”القبيلة”، أو “الدولة” و”الملك”. فالقبيلة تعني الدولة، والدولة تعني القبيلة، والملك يعني الدولة، والدولة تعني الملك. ولهذا فإن انتقاد الملك أو القبيلة أو الفئة المسيطرة يعتبرا مساسا بأمن “الدولة”، وتقوم “أجهزة الدولة” بمعاقبة من تجرأ معارضة ذلك الملك أو تلك القبيلة او تلك الفئة دون رحمة.

? في الدول الديمقراطية (من الناحية النظرية على الاقل) يعتبر المواطن – الدافع للضرائب – هو الحجر الاساس في الدولة. والدولة ومؤسساتها جميعها تحت سيطرة وخدمة المواطنين من خلال ممثليهم. فالمواطن ليس تابعا لملك وليس اداة للدولة، بل العكس. وسيتم تغطية بعض المفاهيم المتعلقة بالمواطنية (والمجتمع المدني) في دروس اخرى انشاء الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق