الأرشيف

Bahrain Freedom Movement

يمكن القول بدون مبالغة انه ليس هناك حركة تعرضت للقمع وحرمت من الاعتراف الرسمي بوجودها، على مدى ثمانين عاما بدون توقف كحركة “الاخوان المسلمون” في مصر. فمنذ تأسيسها على يدي الامام الشهيد حسن البنا في 1928 لم تتوقف ملاحقة افرادها، ولم تخل السجون منهم الا في حقبات قصيرة فرضتها مصلحة النظام وسمعته. ويشعر قادة الجماعة واعضاؤها ان اوضاعهم في ظل حكم الرئيس حسني مبارك لا تختلف جوهريا عما كانت عليه في الحقبة السوداء التي تواصلت عشرين عاما (ما بين ثورة يوليو 1952 وقرار السادات بتخفيف الضغط على الجماعة في 1972).

 فما تزال التهمة الاساسية التي توجه لأي معتقل منهم نفسها لم تتغير: “الانتماء لتنظيم محظور” بالاضافة للتهم الاخرى ذات الطابع السياسي الكيدي. وقد عرفت الاستخبارات المصرية بقدرتها الفائقة على اعداد لوائح الاتهامات ضد معارضي النظام ببراعة فائقة، تعكس بعض مسلسلات عادل امام جانبا منها. وأصبحت لوائح الاتهام هذه مرجعا لأجهزة الاستخبارات العربية الاخرى التي استنسختها ووجهتها لمعارضي الانظمة في تلك البلدان. معاناة الحركة المتواصلة تؤكدها حملات الاعتقال الاخيرة التي طالت اكثر من 300 من اعضائها بينهم عضو مكتب الارشاد محمود غزلان، والرجل الثالث في ترتيبها القيادي خيرت الشاطر وعضو مكتب الارشاد محمد بشر. وقد أحيل هؤلاء مع 38 آخرين من الاعضاء القيايين في الجماعة الشهر الماضي الى محاكمة عسكرية.، بتهم متفاوتة، لكنها منطلقة جميعا بدوافع سياسية ولا تستطيع اية محكمة مدنية في اي بلد ديمقراطي اعتبارها “جرائم” حقا. وحتى القضاء المصري لم يعترف بها، ولذلك أحالها الرئيس الى محاكم عسكرية خاصة تعد للنظر في القضايا المتعلقة بجماعة الاخوان المسلمون. وحتى الآن تتم مثل هذه الاحالة بطلب من الرئيس، ولكنه يسعى لتقنين ذلك الاجراء من خلال ما أسماه “التعديلات الدستورية” المزمعة التي ستعطي الرئيس الحق في احالة المعارضين على اية محكمة شاء، ومنها المحاكم العسكرية. وهناك الآن خشية من ان الاعتقالات الحالية والقمع الذي تتعرض له الجماعة ليس سوى بداية حملة أوسع ضدها، خصوصا بعد التصريح الذي أدلى به الرئيس مبارك في مطلع العام بان الجماعة “خطر على أمن مصر”.
ولعل أغرب ما في الامر ان هذه الجماعة اصبحت تدفع ثمن شعبيتها وسعة نفوذها في كافة الاوساط المصرية، من مثقفين وتجار وكادحين وطلاب جامعيين. وبدلا من ان يسعى النظام لاحتوائها او تحييدها من خلال اشراكها بشكل اكبر في الحكم، اصبح يستهدفها بأساليب أوضح وأوسع، بدون ان يخشى من ردة فعل من القوى الخارجية، برغم صدور ادانات وشجب من المنظمات الحقوقية الدولية لما يمارسه من قمع ضد المعارضين. وهناك مؤشرات لوجود دعم ضمني لما يقوم به النظام، خصوصا من الولايات المتحدة الامريكية. فواشنطن لم تعبر عن اي قلق ازاء الحملة على جماعة الاخوان المسلمون في الوقت الذي أدانت فيه الاسبوع الماضي الحكم الذي أصدرته محكمة استئناف مصرية بتأييد عقوبة السجن ضد مدون أدين بالاساءة الى الاسلام والرئيس حسني مبارك. وقال شون مكورماك المتحدث باسم وزارة الخارجية الامريكية ان  تلك الانتكاسة “انتكاسة لحقوق الانسان في مصر.” وتتعلق القضية بثمانية مقالات اتهم فيها سليمان جامعة الازهر بنشر الفكر المتطرف ووصف بعض صحابة النبي محمد بأنهم ارهابيون كما شبه الرئيس مبارك بفراعنة مصر . واشنطن لم تشر من قريب او بعيد الى معاناة الاخوان المسلمون في مصر، برغم ما اعلنته في السنوات الاخيرة من دعمها الاصلاح السياسي في العالم العربي ونشر الديمقراطية ودعوتها للشفافية السياسية والحقوقية. وتعلم واشنطن قبل غيرها ان مصر هي بوابة العالم العربي في اغلب الميادين. فاذا مارست الديمقراطية بشكل عصري وشفاف فان الديمقراطية سوف تجد طريقها تدريجيا الى الدول العربية والاخرى، والعكس صحيح ايضا. وشملت اساليب القمع والمحاصرة اسلوب “تجفيف المنابع” المالية للحركة، ففي 28 فبراير ثبتت محكمة جنائية طلب المدعي العام بتجميد ممتلكات 29 شخصا من قادة الجماعة، تقدر قيمتها بـ 300 مليون دولار.  كما استمرت اجهزة الامن في توجيه تهم الارهاب وتهديد الامن للجماعة واعضائها، برغم انها اكثر الجماعات الاسلامية اعتدالا، وتنآى بنفسها عن العنف دائما، بل تعتبر نفسها ضحية عنف السلطة. وتجدر الاشارة الى ان تاريخها حافل بالتضحيات، ابتداء باغتيال مؤسسها، الامام البنا في 1948، مرورا باعدام عدد من كوادرها في 1954، في طليعتهم الشهيد عبد القادر عودة، وصولا الى اعدام مفكرها المتميز، سيد قطب في 1966. هذا بالاضافة الى ضحايا التعذيب في السجون منذ الخمسينات.

ما قصة نظام الرئيس حسني مبارك اذن مع جماعة الاخوان المسلمون؟ وما الذي تنطوي عليه “التعديلات الدستورية” التي يسعى لتمريرها بأساليب مثيرة؟ وما علاقة ذلك كله بأوضاع المنطقة والتدخلات الاجنبية فيها؟ وما علاقة ذلك  بالمشكلة الاسرائيلية؟ وثمة حقائق في هذا المجال. اولها ان مصر هي الدولة الكبرى في العالم العربي، وهي التي تحدد المسار السياسي والثقافي في هذه المنطقة. ويمكن القول ان أكبر انجاز حققته السياسة الامريكية في الشرق الاوسط تمثل بإبعاد مصر عن ساحة الصراع المباشر مع “اسرائيل” عندما دفعت أنور السادات لزيارة القدس في 1977 وتوقيعه اتفاقات كامب ديفيد في العام التالي. وبقاء مصر بعيدة مكبلة بتلك الاتفاقات أمر استراتيجي للسياسة الامريكية في المنطقة. وقد لوحظ رفض نظام الرئيس مبارك اتخاذ اية خطوة ذات شأن ضد كيان الاحتلال الصهيوني ردا على الجريمة التي ارتكبها الاسرائيليون في 1967 بقتل 250 من الاسرى المصريين. ووفقا لما نشرته وسائل الاعلام الاسرائيلية فان فرقة تابعة للجيش الاسرائيلي كان يقودها وزير البنية التحتية بنيامين بن اليعازر ربما تكون قد قتلت 250 جنديا مصريا أسيرا في نهاية حرب عام 1967 بدلا من نقلهم الى معسكرات أسرى الحرب. ردة فعل الحكومة المصرية لم تتجاوز استدعاء السفير الاسرائيلي في القاهرة لابلاغه رسالة شجب وتنديد. ورفضت الحكومة اتخاذ اي اجراء اكبر كاستدعاء السفير المصري لدى تل أبيب او تجميد العلاقات مع الكيان الغاصب. وخلال الحرب بين حزب الله والقوات الاسرائيلية في الصيف الما ضي، تميز موقف الحكومة المصرية بسلبية كيبرة، فلم يشجب العدوان الاسرائيلي ولم يتخذ اية خطوة تتناسب مع موقع مصر في العالم العربي. المخططون الاستراتيجيون في واشنطن وتل أبيب يعرفون ان الاخوان المسلمون جماعة اسلامية مبدئية ترفض الاعترف بالكيان الاسرائيلي، وبالتالي فكل ما يتخذه النظام ضدها من اجراءات قمعية أمر ليس مبررا فحسب، بل مطلوب، ولو لم يفعل ذلك بارادته لطلب منه القيام بقمع الجماعة وبقية التيارات والمجموعات المبدئية. وحسب التفكير الاستراتيجي للساسة الامريكية، فان مصر، الدولة العربية الكبرى، لا يمكن ان تحكم بتيار اسلامي مبدئي يرفض الاحتلال الاسرائيلي ولا يقبل بمسايرة السياسات الامريكية في المنطقة. فالتجربة الايرانية كانت سابقة يسعى الغربيون لمنع تكرارها.
الاصلاحات السياسية المحدودة التي ادخلها الرئيس مبارك تحت الضغوط الامريكية بعد حوادث 11 سبتمبر، وفرت فرصة أوسع لمشاركة الاخوان المسلمون في الانتخابات البرلمانية، ففي انتخابات 2005 حصدت 88 مقعدا من مجموع المقاعد البرلمانية البالغ عددها 454 مقعدا، مقارنة بـ 17 مقعدا في الانتخابات التي سبقت. هذا برغم اجراءات الاقصاء والمنع التي مارسها النظام ضد الجماعة، من هنا تأتي التعديلات الدستورية المزمعة ليس لتقليص فرص نجاح مرشحي جماعة الاخوان، بل لمنعهم اساسا من خوض الانتخابات. فاذا أقرت هذه التعديلات الدستورية، وهو أمر متوقع نظرا لهيمنة الحزب الوطني الحاكم على مجلس الشعب، فسوف تشتمل على امرين مهمين: اولهما انها تمنع الترشح الا ضمن كتل حزبية. ثانيا انها تمنع قيام احزاب دينية او عقائدية. وهذا يعني استمرار حظر الجماعة من جهة، ومنع اعضائها من الترشح بصفتهم الشخصية،  كما يفعلون الآن تفاديا لحظر على الجماعة مفروض منذ 1954. وتشمل التعديلات المزمعة ايضا الغاء اشتراط الرقابة القضائية على سير الانتخابات، وهي الرقابة التي منعت حدوث تزويرات اوسع في الانتخابات السابقة. ويقول محللون ان الحكومة تخشى أنه مالم توقف الجماعة فانها ستحصل على مكاسب انتخابية أخرى تجعلها تمثل تحديا خطيرا للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم الذي يرأسه الرئيس حسني مبارك. من هنا صعدت المعارضة المصرية، وفي مقدمتها الاخوان المسلمون وحركة كفاية، فعالياتها الاحتجاجية ضد هذه التعديلات، التي، إن أقرت، ستخلق وضعا صعبا جدا للمعارضة، وتوفر للحزب الحاكم قبضة حديدية أقوى على الاوضاع. كما ستهييء الاجواء لنجل الرئيس، جمال، لاستلام منصب الرئاسة، بعد ان يصبح رئيسا للحزب الوطني الذي تصاغ ا لقوانين الدستورية لضمان هيمنته على المقاعد البرلمانية. المعارضة تشعر ان الوضع يزداد سوءا، وان الاسلوب المتاح امامها هو تصعيد الاحتجاجات. ولكن هل ستؤدي هذه الاحتجاجات الى نتيجة في ظل هيمنة اجهزة الامن على الاوضاع وممارسة سياسة العصا الغليظة ضد المعارضين، وهيمنة الحزب الوطني الحاكم على المفاصل السياسية في البلاد، ودعم الولايات المتحدة و “اسرائيل” لنظام مبارك؟

ربما آن الأوان لجماعة الاخوان المسلمون ان تعيد النظر في استراتيجية عملها السياسي، وهي الحركة ذات الثمانين عاما، وان تدرك ان اصلاح اي نظام استبدادي من داخله امر غير ممكن، لان الانظمة تشتمل على صمامات امان تمنع الآخرين من ممارسة التغيير من الداخل. وامامها تاريخ من ثمانية عقود متواصلة، لم تستطع خلالها التاثير على مسار الامور بشكل جاد، بل لم تستطع الحصول على “شرعية” من النظام الذي أصر على رفض الاعتراف بوجودها كحزب او حركة او جماعة، ونكل باعضائها بالتهمة المثيرة للسخرية “الانتماء لتنظيم محظور”. وما يزال يعتبر نفسه مصدر الشرعية، يمنحها لمن يشاء، ولا يحتاجها من احد. لا بد ان الحركة ادركت صعوبة (بل استحالة)  اصلاح النظام المصري من داخله، وان المشاركة في الانتخابات المؤسسة على دستور يتلاعب به الحزب الحاكم، توفر شرعية للنظام، وتفقد المعارضة القدرة على المناورة السياسية وتحرمها من شرف الوقوف على ذروة جبل المعارضة لترفض الاستبداد وحكم الحزب الواحد، وتدخل اجهزة الاستخبارات الأجنبية في شؤون البلاد، والنأي بنفسها عن القرارات المهينة خصوصا في مجال العلاقات مع اعداء الامة. والبديل ليس بالضرورة اللجوء للعنف والسعي لاسقاط النظام بالقوة. ربما تكون هذه الوسائل مناسبة للمجموعات المعارضة الصغيرة التي لا يتوفر لها بعد شعبي ودعم اجتماعي واسع. اما حركة كالاخوان المسلمون فيكفيها ان تنأى بنفسها عن النظام، وتوجه طاقاتها لاحداث تغيير دستوري حقيقي من خارج الحكم. ويكفيها فساد الحكم وما يعيشه الشارع من فقر وبؤس واضطراب نفسي وسياسي وحقوقي، كمصادر للدعم المعنوي لجهودها الرامية للاصلاح. يكفيها ان تراقب الامور بهدف التغيير، وان توجه انظار العالم الى حالة الاستبداد والتخلف والفقر في بلد عملاق قادر على النهوض والازدهار لو عاش اوضاعا سياسية مختلفة. فلديها من التراث التاريخي والنضال الوطني ما يكفيها، ويوفر لها شرعية لدى الرأي العام داخل مصر وخارجها. وتؤكد تجربة العقد الاخير من الممارسة السياسية جانبا من الخطر المترتب على الانخراط ضمن أطر مفروضة من طرف الحكم بدون ان يكون لهذه الجهة او تلك القدرة على طرح منظور سياسي بديل خارج تلك الاطر. يكفي الحركة ان تعمل لاصلاح ما أفسده الحكم في نفسيات الشعب المصري ومعنوياته ومشاعره. هذا التخريب أكدت بعض جوانبه مجلة “روز اليوسف” في عددها رقم 4091 الذي طالبت فيه باصلاح الانسان المصري، بعد ان تتساءل: كيف وصلنا الى ما وصلنا اليه؟، ووصفت الانسان المصري بانه “أصبح فنانا في تضييع الوقت” وقالت ان “هناك حالة من انعدام الثقة بين المصري وكل ما يحيط به: الدولة والاصدقاء والاقارب وزملاء العمل”. فما تقدمه الحركة من تضحيات يكفي لان يكون وقودا لحركة الاصلاح الاجتماعي والسياسي، وهي حركة ستكون اكثر فاعلية وأثرا اذا انطلقت خارج الاطر الرسمية. فما الفرق بين سجناء “مجلس الشعب” و سجن طرة؟ ان المعتقلين في سجن “طرة” في 2007 يقرأون على جدرانه الكتابات التي سطرها اخوتهم قبل خمسين عاما على الجدران نفسها، من عبارات تحد وصمود وشموخ وعناد بوجه الجلادين، واصرار على مواجهة القمع والظلم والاستبداد. فما أشبه الليلة بالبارحة في أرض الكنانة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies. 

إغلاق